مخرجات قمة الدوحة... مؤشرات على أزمة النظام الإقليمي العربي
رغم حجم الجهد الدبلوماسي القطري وإعلان نجاح القمة العربية الإسلامية في قطر، لم يظهر على أرض الواقع ما يؤشّر إلى تغيّر في مسار العلاقات في المنطقة.
-
يمكن اعتبار الجهد الدبلوماسي الذي بذلته دولة قطر لافتاً بعد تعرّض عاصمتها لعدوان إسرائيلي
يمكن اعتبار الجهد الدبلوماسي الذي بذلته دولة قطر لافتاً بعد تعرّض عاصمتها لعدوان إسرائيلي استهدف اغتيال قادة حماس المعنيين بالتفاوض حول تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار.
غير أنّ هذا الجهد لم يظهر ما يدلّل على إمكانية الانتقال من حدود حفظ ماء الوجه إلى الإدانة الفعلية التي تفترض قراءة ترتقي إلى مستوى الخطر الإسرائيلي الذي بات متحرّراً في التعبير عن نفسه من القيود التي كانت حاكمة لخطابه السياسي قبل طوفان الأقصى.
فالبيان الذي صدر عن مجلس الأمن، والذي اعتبرته الدوحة مرضياً، لم يذكر الكيان الإسرائيلي بالاسم ولم يعرض لأيّ إجراء قانوني بحقّ الدولة المعتدية. وعليه بان بشكل واضح أنّ المساحة المسموح لقطر ومن خلفها الدول العربية بالتحرّك ضمنها لا تخرج عن إطار التنديد والإدانة وإظهار التضامن الدولي من دون أن يؤدّي ذلك إلى المساس بجوهر الحماية والحصانة التي توفّرها الولايات المتحدة تحديداً للكيان الإسرائيلي.
غير أنّ الذي يُطرح كإشكالية أولوية هو أنّ التوازنات التي تحكم مجلس الأمن يُفترض ألّا تكون حاكمة على مستوى جامعة الدول العربية حيث إنّ هذه الأخيرة تشكّل إطاراً لتعزيز التعاون والتكامل بين الدول العربية حصراً، وبالتالي يُفترض نظرياً أن تكون محصّنة تجاه أيّ تدخّل دولي، ويُفترض أيضاً أن تقارب قراراتها بما يتوافق مع أهدافها الحقيقية.
وعليه، انطلاقاً من المسار الذي أظهرته مقرّرات القمة لناحية التزامها بالسقف الذي حدّده الأميركي في بيان مجلس الأمن، أي التنديد بالاعتداء فقط، يبرز تساؤل حول جدوى الإيحاء بالتضامن بين دولها رفضاً لعدوان محدّد على إحدى دولها الأعضاء من دون أيّ توجه لتحرّك فعلي يواجه المشروع الإسرائيلي الذي لا يستثني أيّ دولة من مخططاته.
إضافة إلى ضرورة مقاربة مدى صدقيّة الجامعة حيث إنّها تحركّت نظرياً لمواجهة عدوان يشكّل حلقة فرعية ضمن سلسلة من الاعتداءات التي تطال عدداً غير قليل من دول المنطقة منذ نحو سنتين، والذي لا يمكن فصله عن مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يفترض العمل على تحويل المنطقة العربية بأسرها إلى منطقة نفوذ إسرائيلية يكون قادتها مجرّد ولاة تابعين للكيان.
يمكن اعتبار جامعة الدول العربية من الكيانات التي رافقت نشأتها نشأة الأمم المتحدة، وكان من مميزاتها أنها تجمع مجموعة من الدول المتقاربة في اللغة والدين والمصالح المشتركة وتواجه التهديدات نفسها. وعليه كان من المنطقي أن تتميّز بالدينامية والفاعلية، غير أنّ الواقع قد أثبت تخلّي الدول العربية عن الدور الذي نشأت الجامعة من أجله حيث ارتضت اعتبارها مجرّد أداة ثانوية يمكن اللجوء إليها متى كان ذلك مناسباً.
فمن أجل تأمين غطاء شرعي لتخلّي الدول العربية عن القضية الفلسطينية والحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني مثلاً، لجأت هذه الدول إلى الجامعة عام 2002 لتشريع التوجّه نحو الانفتاح على الكيان الإسرائيلي حيث تمّ التخلّي عن فكرة العداء المطلق للكيان والذهاب نحو عدم تحريم العلاقات معه وفق شروط كان من السهل على بعض الدول العربية القفز فوقها استناداً إلى تبريرات متنوّعة، مع الإشارة إلى أنّ عدم التجاوب الإسرائيلي مع هذه المبادرة لم يؤدِ إلى مراجعتها أو التخلّي عنها.
بالطبع، لم تكن الرؤية القطرية لجامعة الدول العربية بعد الاعتداء الإسرائيلي الأخير عليها مختلفة عمّا سبق ذكره، حيث إنها، أي الجامعة، لم تكن دائماً ملجأ قطر الأول عند مواجهة أيّ خطر أو تحدٍ. وعليه، رغم منطقية تأخير موعد الجلسة عن موعد جلسة مجلس الأمن، إلا أنّها لم تخصص لها اجتماعاً منفرداً حيث جمعت القمة في الدوحة الدول العربية والإسلامية معاً.
فإذا كان من الممكن اعتبار هذا الجمع بمثابة إشارة على حجم التضامن والإجماع حول إدانة الاعتداء على قطر، فمن الممكن أن يُقرأ أيضاً ضمن مسار عدم السعي لتبنّي خطوات تدلل على الحسم وعلى إمكانية الانتقال من مرحلة التنديد والإدانة والتضامن إلى مرحلة تبنّي قرارات إجرائية توازي فعل الاعتداء، أي الاكتفاء بحصر دور الجامعة ضمن مسار حفلة العلاقات العامّة التي تستهدف التدليل على العدوان الإسرائيلي وتداعياته على الأمن الإقليمي ومسار التطبيع من دون أن يكون لهذه الحفلة أيّ تأثير حقيقي على موقعها التقليدي وعلاقاتها الدولية.
من ناحية أخرى، ورغم حجم العدوان الإسرائيلي الذي لا يمكن حصره في ما حصل في الدوحة، التزمت الدول العربية ومن خلفها الإسلامية بسقف الردود البروتوكولية حيث كشفت عن عمق الأزمة البنيوية التي تواجه إمكانية بناء نظام إقليمي مشترك قادر على مواجهة تحدّيات مصيرية باتت تهدّد بتأكّل السلطة المركزية للدول من دون أن ننسى مخاطر هذه الاعتداءات على جغرافيّتها وحدودها.
في هذا الإطار، قد يظنّ البعض أنّ السبب المباشر لكلّ ذلك يتعلق حصراً بفقدان جامعة الدول العربية للبنى المؤسساتية القادرة على اتخاذ وتنفيذ قرارات تنفيذية كما هو حال الاتحاد الأوروبي. غير أنّ حقيقة هذه المعضلة قد تكمن في مكان آخر، فضعف هذه البنى المؤسساتية لا ينفصل عن الضعف الذي يعتري البنى المؤسساتية للدول العربية.
فبعيداً عن الاستقرار أو إمكانية لمس فاعلية مؤسسات الدولة في بعض هذه الدول، يمكن القول إنّ بناء الدولة في العالم العربي لم يكن نتاج تطوّر طبيعي يمكن لمسه من خلال الملاحظة أو من خلال المسار التاريخي الذي حكم عملية البناء هذه. فالأطر العملية لإنتاج السلطة في هذه الدول محكومة لعقدة التشوّه حيث إنّ الاستقرار الذي يميّز بعضها يستند فقط لعوامل خارجية أمّنتها حاجة القوى الكبرى لما تملكه هذه الدول من موارد وإمكانات.
وعليه أمكن التقدير أنّ الاستقرار المرتبط آلياً بمصالح القوى الكبرى لن يساعد في بناء آليات مستقلة قادرة على إنتاج قرارات عقلانية توافق المصلحة السيادية للدولة أو القومية التي من المفترض أن تعبّر عنها جامعة الدول العربية، وإنما سيؤدّي إلى حالات اختلاف جذرية ويساعد في بروز إيقاعات متنافرة في التوجّهات السياسية للدول.
وعليه، رغم حجم الجهد الدبلوماسي القطري وإعلان نجاح القمة العربية الإسلامية في قطر، لم يظهر على أرض الواقع ما يؤشّر إلى تغيّر في مسار العلاقات في المنطقة.
فمن خلال تأكيد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في زيارته للكيان لحظة انعقاد القمة ومشاركته في افتتاح نفق استيطاني تحت المسجد الأقصى على الدعم الثابت للكيان، إضافة إلى توقيت إعلان الكيان انطلاق عملية احتلال مدينة غزة بعد أقلّ من 12 ساعة على صدور البيان الختامي للقمة في الدوحة، من دون أن ننسى تمسّك قطر وبعض الدول العربية بعلاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة وتأكيد أنّ هذه العلاقات لن تتأثّر بما يجري، يمكن استنتاج حاجة الواقع الإقليمي لإعادة هيكلة مؤسساته ضمن رؤى تستند إلى مفهوم موحّد للهوية القومية يأخذ بالاعتبار ضرورة إعادة تعريف الأمن القومي بعيداً عن علاقات التبعيّة للقوى الكبرى، إضافة إلى ضرورة بناء آليات عمل فاعلة وملزمة تتجاوز منطق التعطيل وتؤسّس لبناء مؤسّسي لا يُعدّ الرجوع إليه مجرّد خيار ثانوي.