مذابح الفاشر وإحياء الضمير العالمي ودبلوماسية الخداع

سقوط الفاشر وما تبعه من جرائم ترقى إلى التطهير العرقي، يكشف بوضوح فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين وفقدانه لمعايير العدالة والحياد.

0:00
  • صمود الفاشر.. المدينة المحاصَرة.
    صمود الفاشر.. المدينة المحاصَرة.

أشعلت المصالح الضيّقة لبعض الأطراف الخارجية وجرائم القتل العرقي التي استهدفت المدنيين الأبرياء عقب سيطرة مليشيا "الدعم السريع" على مدينة الفاشر (عاصمة إقليم شمال دارفور) يومي 24 و26 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، موجة غضب عارمة، وأيقظت في المقابل ضميراً عالمياً تضامنياً متنامياً جسّدته التظاهرات والاحتجاجات والوقفات التي نُظّمت عبر العالم، بعد أن تكشّفت للعالم بشاعة الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت بحقّ السكان المدنيين الأبرياء عقب سقوط المدينة.

لقد مثّلت الحملات التي أطلقها ناشطون سودانيون وتفاعل "مؤثِّرين" من مختلف أنحاء العالم، نقطة تحوّل في الرأي العامّ الدولي، إذ كشفت حجم التورّط الخارجي في الصراع السوداني، وشوّهت الصورة التي سعت الإمارات العربية المتحدة إلى ترسيخها خلال العقود الأخيرة كدولة "نموذج" في مجالات التنمية والدبلوماسية والشراكة الدولية. فبينما تنفي أبو ظبي أيّ علاقة لها بما يجري في السودان، كانت تقدّم نفسها، في الوقت ذاته، كوسيط ضمن "المجموعة الرباعية" أو ما يُعرف بـ "التحالف لحفظ الأرواح وتعزيز السلام في السودان" (ALPS) الذي تأسّس في آب/أغسطس 2024.

دارفور من جديد في قلب المأساة

شهد إقليم دارفور خلال عام 2003 واحدة من أعتى الأزمات الإنسانية في أفريقيا، حيث اندلعت مواجهة عنيفة بين القوات الحكومية وحلفائها ـــــ ومن بينهم مليشيا الجنجويد التي تحوّلت لاحقاً إلى الدعم السريع ـــــ وبين الحركات المتمرّدة آنذاك. وقد ولّدت تلك الأحداث حركة تضامن عالمية واسعة تحت شعار "أنقذوا دارفور"، دفعت المجتمع الدولي نحو التدخّل وإحالة القضية إلى "المحكمة الجنائية الدولية" (ICC) التي أصدرت بدورها في الأعوام 2007 و2009 و2010 و2012 و2014 و2020 مذكّرات توقيف بحقّ عدد من المسؤولين والمواطنين السودانيين المشتبه بتورّطهم، وعلى رأسهم الرئيس السابق عمر البشير.

اليوم، تعود مأساة دارفور إلى واجهة الضمير العالمي، لكن في سياق مختلف وأكثر تعقيداً وخطورة. فالصراع الحالي لم يعد تمرّداً محلياً محدوداً كما في السابق، بل أصبح جزءاً من مشروع خارجي يستخدم المليشيا كأداة لتقويض الدولة السودانية. في المقابل، تحوّلت بعض الحركات المتمرّدة السابقة ـــــ التي تقاتل اليوم ضمن "القوة المشتركة" إلى جانب الجيش السوداني ـــــ من معارضين مسلّحين إلى حلفاء رئيسيين للحكومة المركزية، بعد أن فقدت تلك القوى مظلّتها الدولية والإقليمية القديمة.

ما يميّز الصراع الراهن هو أنّ المدنيين أنفسهم أصبحوا هدفاً رئيسياً للعمليات العسكرية، في إطار استراتيجية منظّمة تهدف إلى كسر صمود المجتمع المحلي ودفعه نحو الاستسلام أو النزوح القسري.

صمود الفاشر.. المدينة المحاصَرة

على مدى أكثر من 260 معركة، صمدت القوات المسلحة السودانية والفرقة السادسة والقوة المشتركة (المؤلفة من حركات متمرّدة سابقة) في مواجهة موجات متتالية من هجمات مليشيا الدعم السريع منذ أيار/مايو 2024. ومع امتداد القتال، تحوّلت الفاشر إلى ملاذ لآلاف النازحين، إذ تشير التقديرات إلى أنّ نحو 700 ألف مدني ظلّوا تحت حصار خانق دام أكثر من 17 شهراً، وسط انعدام للمياه والغذاء وتدمير ممنهج للبنية المدنية.

استخدمت المليشيا القصف المدفعي والطائرات المسيّرة لتدمير المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء، ضمن خطة تهدف إلى تفريغ المدينة من سكانها. ووفق ما أعلن مندوب السودان الدائم في مجلس الأمن في 30 تشرين الأول/أكتوبر، فإنّ اقتحام الفاشر تمّ بعد قصف منسّق نفّذته طائرات أجنبية دعمت المتمرّدين ميدانياً، ما مهّد الطريق لسقوط المدينة في أيديهم.

شكّلت هذه التطوّرات نكسة كبيرة لخطط الحكومة السودانية في تحرير دارفور وردع التمرّد، في ظلّ مؤشّرات على تنسيق خارجي هدفه إضعاف القوات المسلّحة وعرقلة تقدّمها الميداني نحو الإقليم.

دبلوماسية الخداع والمراوغة

يمكن القول إنّ ما حدث في الفاشر هو نتاج مباشر لما يمكن تسميته بـ "دبلوماسية الخداع"، التي قادها مسعد بوليس (كبير مستشاري إدارة ترامب للشؤون الأفريقية) عبر سلسلة تحرّكات دبلوماسية منذ لقاء جنيف في 11 آب/أغسطس.

فقد سعت تحرّكاته إلى جرّ رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى قبول وقف إطلاق نار غير متكافئ، من دون أيّ ضمانات لالتزام المتمرّدين به، ما وفّر غطاءً ميدانياً لهم لتحقيق مكاسب على الأرض.

المفاوضات التي رعاها بوليس في واشنطن بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر جاءت متزامنة مع سقوط الفاشر وبارا (في شمال كردفان)، ما يعزّز الشكوك حول ارتباط المسار الدبلوماسي بنتائج عسكرية ميدانية لصالح المليشيا. فخطة وقف إطلاق النار لثلاثة أشهر، كما صيغت، كانت تهدف عملياً إلى تجميد الصراع مع بقاء دارفور بحدودها المفتوحة مع أربع دول تحت سيطرة الدعم السريع، وجعل شمال كردفان منطقة فاصلة بين القوات المتحاربة تمهيداً لفرض واقع تقسيمي دائم.

وبينما قدّم بوليس مبادراته تحت غطاء "الوساطة الإنسانية"، فإنها في حقيقتها عكست انحيازاً واضحاً للمليشيا وداعميها، وتجاهلت خروقاتها المتكرّرة منذ اتفاق جدّة (أيار /مايو 2023). كما يرى الخبير الإثيوبي عبدول محمد أنّ هذا النهج يعكس "انهيار تقاليد الوساطة وصناعة السلام الحقيقية في أفريقيا"، حيث باتت الجهود الدولية تفضّل تجميد النزاعات بدلاً من تسويتها.

الضمير العالمي يعود للحياة

أعادت حملات التضامن الشعبي والإعلامي مع ضحايا مذابح الفاشر إحياء الضمير الإنساني العالمي من جديد. فقد أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي أنها أصبحت أداة فاعلة في تشكيل وعي عالمي ضدّ الظلم والعدوان، ودفعت حكومات كانت صامتة أو متواطئة إلى مراجعة مواقفها بعد انتشار الأدلة والشهادات الموثّقة.

كما ساهم هذا الزخم في إعادة تعريف طبيعة الصراع لدى الرأي العامّ الدولي، إذ لم يعد يُنظر إليه بوصفه "صراعاً بين جنرالين" أو "حرباً أهلية داخلية"، بل كعدوان خارجي منظّم تُسهم فيه أطراف إقليمية ـــــ وفي مقدّمتها أبو ظبي– عبر تمويل وتسليح المليشيا واستخدامها كأداة لتفكيك الدولة السودانية.

الفاشر وغزة.. مرآتان لعجز النظام الدولي

إنّ سقوط الفاشر وما تبعه من جرائم ترقى إلى التطهير العرقي ـــــ حيث تشير التقديرات الأولية إلى مقتل نحو 2000 مدني خلال يومين فقط، يكشف بوضوح فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين وفقدانه لمعايير العدالة والحياد.

إنّ المأساة السودانية في دارفور تشكّل، إلى جانب المأساة الفلسطينية في غزة، دليلاً صارخاً على تآكل الثقة في النظام الدولي ومؤسّساته، وتحوّل مبدأ "عدم الإفلات من العقاب" إلى استثناء لا يُطبّق إلا انتقائياً.

لذلك، فإنّ التضامن العالمي يجب ألّا يتوقّف عند حدود الإدانة أو التعاطف، بل يجب أن يُترجم إلى تحرّك فعلي للمساءلة الدولية ومحاسبة كلّ الأطراف المتورّطة في هذه الجرائم، أياً كانت مواقعها أو حلفاؤها.
فالتغاضي عمّا جرى في الفاشر ـــــ كما في غزة ـــــ يعني ترسيخ "الإفلات الدولي من العقاب"، ودفن ما تبقّى من القيم الإنسانية التي قام عليها النظام الدولي المعاصر.

في الخلاصة، إنّ الجرائم الوحشيّة التي أعقبت سقوط مدينة الفاشر تمثّل النتيجة الطبيعية لدبلوماسية الخداع التي مارستها ما تُعرف بـ "المجموعة الرباعية"، وعلى وجه الخصوص المبعوث الأميركي مسعد بوليس. فقد أدى هذا النهج القائم على التواطؤ السياسي والسعي لتحقيق مكاسب تكتيكية ضيّقة ـــــ سواء سياسية أو عسكرية ـــــ إلى ثمن إنساني فادح تمثّل في عمليات تطهير عرقي ممنهج، من شأنها أن تفتح الباب أمام دورات انتقامية جديدة ذات طابع عرقي في دارفور، وتُجهِز عملياً على أيّ أمل في دور خارجي نزيه أو فعّال، مهما بدت نواياه المعلنة إيجابية أو محايدة.

منتصف نيسان/أبريل 2023 تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.