مقاربة واقعية لمعادلات التفاوض بين لبنان والكيان الإسرائيلي

يظهر موقف الكيان الإسرائيلي من التفاوض مع لبنان مرتكزاً إلى فكرة العداء وعدم الثقة بما يستلزم، من وجهة نظرهم، إخضاع لبنان أمنياً وعسكرياً بطريقة مباشرة وخشنة.

0:00
  • معادلات التفاوض بين لبنان والكيان الإسرائيلي.
    معادلات التفاوض بين لبنان والكيان الإسرائيلي.

اعتاد الكيان الإسرائيلي أن يبني مساراته التفاوضية مع الدول العربية انطلاقاً من تفوّقه العسكري، وحجم الدعم الدولي الذي يظهر انحيازاً مطلقاً له.

فالولايات المتحدة، ومن خلفها القوى الغربية، لا تظهر أي حرج في التعبير عن علاقاتها العضوية بالكيان، إذ تعدّ  تفوّقه ووجوده هما الضامن الأساسي لمصالحها في المنطقة.

فأي علاقة تعاقدية أو تحالفية مع دول المنطقة الأخرى لن تكون موضع ثقة لناحية الاستمرارية أو الفاعلية. فالكيان الإسرائيلي في الوعي السياسي الغربي هو الامتداد الحضاري الذي يتخطى حدود الشراكة ليشكل امتداداً لمنظومة تتمحور وظيفتها حول تطويع محيط عربي شكّل تاريخياً بؤرة اضطراب ليس من السهل تطويعها أو تدجينها.

فإذا كان من الممكن القول إن المنظومة الغربية قد نجحت في تكريس وجود أنظمة عربية أدّت دوراً فاعلاً في وأد أسس القومية العربية، وألغت حالة العداء الشعبي العربي العابر للحدود التي رسمها الاستعمار، فإن ذلك لم يشكل مصدراً لطمأنينة غربية مطلقة يمكن من خلالها العمل على تحقيق توازن في العلاقة بين هذه المنظومة من جهة وكل من الدول العربية والكيان من جهة أخرى.

فرغم الدعم المطلق الذي حصل عليه صدام حسين في حربه ضد الجمهورية الإسلامية، وبعد أن قدّم للغرب خدمة ثمينة من خلال استنزاف إيران، لم تتمكن القوى الغربية من هضم قوة جيشه، وعملت على تدميره من خلال إيقاعه في فخ احتلال الكويت.

ورغم العلاقة الإستراتيجية التي نسجتها هذه المنظومة مع دول الخليج وتقديمها الدعم المطلق لأنظمتها، كان لافتاً أن 15 خاطفاً من ال 19 كانوا سعوديين بالإضافة إلى إماراتيين اثنين.

وعليه، أمكن التقدير أن الرؤية الغربية لواقع الدول العربية لا تستند إلى ثقة أو طمأنينة، إذ ترى أنه في أي لحظة قد تنقلب الأمور في أي دولة أو مملكة بحيث تتحوّل إلى كيانٍ معادٍ للولايات المتحدة والغرب.

بطبيعة الحال، لا يمكن تحليل الواقع اللبناني بطريقة مختلفة عن ما سبق، إذ أثبت التاريخ  أن أي لحظة قد تكون فارقة في هذا الإطار.

فبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي أنهى مفاعيل اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرّع وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، وجدت الولايات المتحدة ومن خلفها فرنسا وبريطانيا الفرصة مواتية لتكريس النفوذ الغربي حيث أرسلت قوات إلى لبنان بهدف ملء الفراغ الذي أحدثه خروج ياسر عرفات من لبنان.

فقد كان من الطبيعي أن تستغل الولايات المتحدة هذه الفرصة لتثبيت النظام الجديد الذي أبدى انفتاحاً على إمكانية تطبيع العلاقة مع الكيان، وتحويل لبنان إلى ساحة أمنية للولايات المتحدة ومن خلفها الكيان الإسرائيلي، إذ سارع أمين الجميل إلى توقيع اتفاق 17 أيار الذي يمكن وصفه بوثيقة خضوع لبنان لمتطلبات الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة. 

غير أن ما أظهرته الأحداث في ما بعد أن النظام الجديد لم يكن قادراً على الصمود في وجه الرفض الداخلي للوجود الغربي وللاتفاق، إذ تزامن الانقلاب على الاتفاق مع توجيه المقاومة لسلاحها نحو تلك القوات، وكانت أهم عملياتها  العملية التي استهدفت تلك القوات وأودت بحياة أكثر من 300 جندي أميركي وفرنسي في يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر عام 1983 من دون أن ننسى ما تعرضت له قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1982 حتى التحرير عام 2000 من ضربات تضاف إليها خسائر الكيان في حربي 2006 وحرب الإسناد الأخيرة. 

وعليه، يمكن التقدير أن الرؤيتين الغربية والإسرائيلية للواقع اللبناني لا تأخذ في الاعتبار إمكانية ضمان تحوّل الواقع الشعبي في لبنان، خصوصاً في الجنوب، من حالة العداء إلى حالة السلام.

وبالتالي، يظهر موقف الكيان الإسرائيلي من التفاوض مع لبنان مرتكزاً إلى فكرة العداء وعدم الثقة بما يستلزم، من وجهة نظرهم، إخضاع لبنان أمنياً وعسكرياً بطريقة مباشرة وخشنة بحيث يفرض الكيان الإسرائيلي شروطاً متلاحقة تظهر عدم النية بالوصول إلى تهدئة عنوانها الردع وإنما التركيز على ضرورة فرض هذه التهدئة من خلال القوة العسكرية المطلقة، والإخضاع السياسي والاقتصادي الذي يساعد في إسقاط الدولة متى تطلب الأمر ذلك.

من ناحيتها، تظهر الدولة اللبنانية تخبّطاً في موقفها إذ إن الانقسام الداخلي لا ينعكس حصراً في الواقع السياسي، وإنما يتخطاه إلى الواقع الشعبي حيث نجحت المنظومة الغربية في كي وعي جزء من الشعب اللبناني وأظهرته باحثاً ليس فقط عن النأي بالنفس عن أي صراع مع الكيان الإسرائيلي وإنما منحازاً بشكل فاضح للرواية الإسرائيلية وداعياً إلى استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة بيئة المقاومة بغية القضاء عليها وتدميرها.

وعليه، إذا كان من الممكن توصيف التوجه الحقيقي لرئيس الجمهورية وفي بعض الأحيان رئيس الحكومة على أنه يستهدف تحقيق الوصول إلى تسوية وفق أسس حفظ السيادة وتحرير الأرض والمعتقلين وإعادة الإعمار، فإن هذا التوجه يصطدم في أحيان كثيرة بمواقف بعض الأطياف السياسية الداعية إلى الانحياز للمشروع الإسرائيلي.

وإذا ربطنا هذا الواقع برؤية المقاومة الهادفة إلى عدم السماح بإسقاط لبنان تحت المظلة الإسرائيلية، وضرورة عدم تقديم تنازلات مجانية والتمسك بحقوق لبنان السيادية وعدم التفريط بأدوات قوته، سيظهر واضحاً مستوى انعكاس الانقسام الداخلي ومدى تأثيره على موقف لبنان التفاوضي.

فإذا كانت المقاومة في لبنان لا تستهدف إبقاء لبنان في دائرة العدوان واستباحة السيادة إذ التزمت بشكل مطلق  بمندرجات اتفاق وقف إطلاق النار المستند إلى القرار 1701، فإنها بالمقابل لا توافق على إسقاط حقوق لبنان السيادية تحت مطرقة الهيمنة الإسرائيلية، وبالتالي تظهر من حيث المبدأ متوافقة شكلياً مع توجّه رئيس الجمهورية.

وبالتالي، يمكن لرئيس الجمهورية الساعي أولاً لحفظ السلم الداخلي وتكريس سيادة الدولة على كل الأراضي اللبنانية أن ينطلق في تعاطيه مع العدوان من خريطة تحرك دبلوماسي تضع على الطاولة أهمية الدور اللبناني في تثبيت الأمن الإقليمي، حيث تبدي أطراف دولية عدة حساسية مطلقة تجاه أي استهداف لبيئة المقاومة، بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من ورقة الردع غير المباشر الذي يملكه لبنان انطلاقاً من تقدير الكيان لما تمتلكه المقاومة من قوة لم ينجح في تدميرها، من دون أن ننسى قرارات الشرعية الدولية وواقع العزلة الدولية التي بات يعاني منها الاحتلال بعد جريمة الإبادة التي ارتكبها في غزة، ناهيك بالدعم الخارجي والتشابك الإقليمي الذي يعتبر أن لبنان طرفاً أساسياً فاعلاً في حل بعض القضايا العالقة كأزمة النزوح السوري واللجوء الفلسطيني، ومن دون أن ننسى أيضاً ما قد تفعله القوة الناعمة القائمة على العلاقات المتشابكة التي يتميز بها لبنان استناداً إلى الموزاييك الطائفي الذي يتشكل منه المجتمع اللبناني.

يمكن القول هنا إن هذه المزايا لا تمنح لبنان موقع القوي المتمكن من فرض شروطه على طاولة المفاوضات الكبرى التي تديرها الولايات المتحدة لكنهاً حتماً تساعد بفاعلية في تحقيق المطالب اللبنانية التي تنحصر في إطار الجغرافيا اللبنانية تحت عنوان السيادة السياسية، والقدرة على استثمار الموارد بحرية، وضمان عدم تهديد أمنه الداخلي وعدم التفريط بقوة المقاومة التي تتشكل من نسيج لبناني لعب دوراً حاسماً في بناء معادلات ردع إستراتيجية حيث كانت الدولة عاجزة.