من الهولوكوست إلى غزّة: انكسار السردية الصهيونية في الضمير الغربي
الزحف الإحصائي نحو الحقيقة، وإن اختلفت تقديراته، صنع مناخًا معرفيًا جديدًا أتاح لغرف الأخبار الغربية إعادة صوغ قصّتها عن غزّة بضميرٍ أقلّ تواطؤًا وأكثر اقترابًا من المعايير الحقوقية.
-
من ضحية الذاكرة إلى مساءلة الجلّاد.
يحدث أحيانًا أن تنطق منصّة مرجعية في الغرب بما ظلّ كثيرون يهمسون به على الهامش. هذا ما جرى حين نشرت مجلة "بروسبيكت" البريطانية، في الثامن من تشرين الأول / أكتوبر 2025، مقالًا للمؤرخ الإسرائيلي- الأميركي أومير بارتوف - أحد أبرز دارسي الإبادة الجماعية والهولوكوست - يصف ما يجري في قطاع غزّة بأنه إبادة جماعية ويضعه في سياق إنكارٍ بنيوي تربّى عليه المجتمع الصهيوني، تمامًا كما أنكر الألمان طويلًا ما فعلته دولتهم في أربعينيات القرن الماضي. لم يكن ذلك "رأيًا قاسيًا" في مطبوعة هامشية، بل غلافًا لمجلة فكرية نخبوية تُخاطب صانعي القرار في لندن وأوروبا؛ ومن هنا دلالة اللحظة: انكسارٌ في هيبة السردية الصهيونية داخل البيت الإعلامي الغربي نفسه.
هذا الانكسار لم يأتِ من فراغ، فقد تراكمت خلال العامين الماضيين أدلّة مادّية وإفادات قانونية وصحافة تحقيقية جادّة دفعت نحو تغييرٍ في المعجم الأخلاقي واللغوي: من خطاب "حقّ الدفاع عن النفس" المفرغ من محتواه، إلى تسمية الوقائع بأسمائها.
ولعلّ النقطة المفصلية التي أسّست لسقوط "درع الاستثناء" كانت نتيجة لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان، في السادس عشر من أيلول / سبتمبر 2025، التي خلصت إلى أنّ "إسرائيل" ارتكبت جريمة إبادة جماعية في قطاع غزّة مع الإشارة إلى دلائل على القصد عبر تصريحات مسؤولين وسياسات ميدانية متّسقة.
حين يتقاطع هذا الحكم الأممي مع مقال بارتوف، نفهم أنّ المسألة لم تعد مجرّد اختلاف في التأويل، بل تحوّلاً في معيار الحكم نفسه.
من ضحية الذاكرة إلى مساءلة الجلّاد
لسنواتٍ طويلة، احتمى الكيان الصهيوني بذاكرة الهولوكوست باعتبارها "حصانة أخلاقية" تمنحه شرعية فوق النقد.
لكن بارتوف - القادم من قلب دراسات المحرقة - بدّل زاوية النظر: الذاكرة التي لا تُحاسِب تتحوّل إلى أداة تبرير. في مقاله، يبيّن كيف استُدعي الهولوكوست - بوصفه "لغة الاستثناء" - لتأطير كل حرب تُشنّ على الفلسطينيين، ولا سيما في قطاع غزّة، باعتبارها "حرب وجود" لا تُقاس بقواعد القانون، بل بمقارناتٍ متعسّفة مع أوشفيتز. بهذا المعنى، لا يكتفي بارتوف بانتقاد سياسة، بل ينزع القداسة عن خطابٍ كامل ترسّخ في الثقافة السياسية الغربية منذ عام 1948.
وتساند هذا التفكيك شهادة الواقع: فمنذ الثامن من تشرين الأول / أكتوبر 2023، أعلن وزير دفاع الكيان الصهيوني آنذاك يوآف غالانت ما سمّاه "حصارًا كاملًا" على القطاع: لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، مقرونًا بتجريدٍ تحقيري لسكان غزّة بوصفهم "حيوانات بشرية".
تحوّلت تلك العبارة إلى قرينة قصدٍ تستدعيها منظمات حقوقية وتقارير قانونية مستقلة، وتُقابلها أنماط عمليات استهدافٍ ممنهج للبنى المدنية الأساسية. لم تكن تلك زلات لسان في لحظة غضب، بل لسان سياسة سرعان ما تُرجم على الأرض.
العمران الشاهد والخرائط التي لا تكذب
حين تتحدّث الخرائط، تصمت الدعاوى. تُظهر تحليلات الأقمار الصناعية الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة، ومعها بيانات من منظمات إنسانية متقاطعة، نسب دمارٍ كارثية وصلت في بعض المدن إلى أكثر من ثمانين في المئة من مجمل الأبنية في غزة، فيما سجّلت تقديرات أخرى دمارًا أو تضرّرًا في نحو سبعين في المئة من هياكل القطاع، مع انهيارٍ شبه كامل للمساكن والبنى الخدمية.
هذه ليست أرقامًا في فراغ؛ بل جيولوجيا اجتماعية جديدة فُرضت على قطاع غزّة، تجعل من الحديث عن "حرب" بالمعنى الكلاسيكي نوعًا من التزييف اللغوي، لأنّ ما جرى ويجري أقرب إلى هندسة محوٍ معمّم.
في المقابل، تتسع النقاشات العلمية والصحفية حول الحصيلة البشرية غير المباشرة الناتجة من سوء التغذية والأمراض والانهيار الصحي والمياه الملوّثة، بما يوسّع معنى "القتل" خارج منطق القذيفة المباشرة. هذا الزحف الإحصائي نحو الحقيقة، وإن اختلفت تقديراته، صنع مناخًا معرفيًا جديدًا أتاح لغرف الأخبار الغربية إعادة صوغ قصّتها عن غزّة بضميرٍ أقلّ تواطؤًا وأكثر اقترابًا من المعايير الحقوقية.
من الحياد الزائف إلى تسمية الأشياء
لا يشتغل الإعلام في فراغ؛ إنه مرآةٌ وقوّةٌ ناعمة في آن. داخل غرف الأخبار البريطانية والأميركية تصاعدت خلال الشهور الماضية حالات التمرّد المهني، من استقالاتٍ وعرائض داخلية إلى مراجعات تحريرية علنية تطالب بالكفّ عن "التوازن المضلّل" الذي يُساوي بين ضحية محاصرة و"جيشٍ" متفوّق عسكريًا.
رأينا ذلك في صحيفة "ذا غارديان" عبر مقالات رأي وتحقيقات تخلّت صراحة عن لغات التخفيف، ووصل الأمر في آب / أغسطس 2025 إلى نصٍّ طويل يقرّ بأنّ الجرائم يمكن أن تستمر حين تُصاب الصحافة بالبلادة. ليست هذه مجرّد كلمات غاضبة؛ إنّها بيانٌ مهني يضع الصحفي أمام امتحان الضمير: إمّا أن يسمّي الفصل العنصري والتطهير العرقي والإبادة بأسمائها، وإمّا أن يتحوّل إلى شاهد زور.
أبعد من ذلك، باتت منصّات رأي رصينة تستضيف - من داخل المقاربة القانونية - أصواتًا مثل المقرّرة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي التي استخدمت مرارًا توصيفات "نظام فصل عنصري" و"أفعال إبادة" في تقاريرها الفنية، ما أوجد جسرًا مؤسسيًا بين خطاب القانون الدولي وخطاب الإعلام العام. وكلّما تعزّز هذا الجسر، ازداد ضيق الهامش أمام المراوغات اللغوية التي منحت "إسرائيل" حصانة سردية لعقود.
حين يهتزّ المركز لا الهوامش
تكمن قوة مقال بارتوف في موضع نشره بقدر ما تكمن في حجّته. فمجلة "بروسبيكت" ليست منصة شعبوية أو بيان ناشطين؛ إنها مجلة فكرية تُخاطب العقل الليبرالي في الغرب. يوم وضعت مقال "حالة إنكار" على غلافها، وأتبعتْه بحوارٍ مع صاحبه، انكسر "التابو" القديم داخل الخيال السياسي الأوروبي: يمكن نقد "إسرائيل" من قلب المؤسسة من دون الاتّكاء على اليمين الشعبوي أو اليسار الهامشي.
لم يعد الدفاع عن الحقوق الفلسطينية "هواية أيديولوجية"، بل موقفًا معرفيًا وأخلاقيًا له مرجعياته القانونية والإحصائية.
وما يمنح هذا التحوّل وزنه أنه تزامن مع نتائج لجنة التحقيق الأممية، ومع اتّساع ثقافيّ في أوروبا لصالح المقاطعة المؤسسية وتقييد صادرات السلاح بدعوى مخاطر التواطؤ. في بريطانيا نفسها، تتصاعد نقاشاتٌ حول مسؤولية الشركات والمؤسسات الثقافية، وقد شهدنا سجالاتٍ واسعة في المجتمع الثقافي حول مقاطعة مؤسسات إسرائيلية بوصفها متواطئة، وهي سجالاتٌ تُظهر أنّ المعركة انتقلت من الهتاف إلى سياسات الامتثال الأخلاقي.
السياسة حين يشتغل عليها الضمير
اللغة تُمهّد للسياسة. وحين تتبدّل مفردات الإعلام، تتبدّل معها فضاءات الفعل الممكن: من المساءلة البرلمانية حول تراخيص التصدير، إلى الملاحقات القضائية وفق مبدأ الاختصاص العالمي، وصولًا إلى إعادة تعريف الشراكات الأمنية بميزان المخاطر القانونية.
ما كان يُقدَّم أمس بوصفه "ضرورات أمنية" يغدو اليوم عائقًا قانونيًا وأخلاقيًا أمام الحكومات الغربية نفسها. وهذه ليست نزوة عاطفية عابرة، بل اتجاهًا معرفيًا متناميًا تدعمه وثائق أممية وصور أقمار صناعية وتصريحات موثّقة.
في هذا السياق، يصبح تصريح غالانت في اليوم التالي لعملية السابع من تشرين الأوّل، والنتائج المادية التي أعقبته، حجّةً معيارية أمام أيّ قاضٍ وأيّ غرفة أخبار: القصد معروف، والأثر معلوم، والفجوة بينهما تواطؤ لغوي ليس أكثر. لذلك، لم يعد مقبولًا مهنيًا أن تُختزل غزّة في ثنائية "إرهاب / دفاع عن النفس"، ولا أن يُطلب من الفلسطيني أن يثبت "براءته" قبل أن يحصل على ماءٍ وغذاءٍ وملاذ.
حالة الإنكار… في الغرب أيضًا
لا يبرّئ مقال "بروسبيكت" الضمير الغربي من نصيبه في الإنكار. إنه في جانبٍ منه اعتراف متأخر بأنّ الصحافة الأوروبية والأميركية سكتت طويلًا أو دوّرت الكلام حين كان ينبغي لها أن تُسمّي.
هذا ما تعترف به نصوصٌ رصينة في "ذا غارديان"، حيث يقارب صحفيون كبار فشل غرف الأخبار في التعبير عن "الغضب الأخلاقي"، وكيف يفضي ذلك على المدى البعيد إلى تطبيع الجرائم الكبرى.
لا يضع هذا الاعتراف حدًّا للمسؤولية؛ بل يفتح ملفّها على مصراعيه: من تبييض المصطلحات، إلى انتقاء الضحايا، إلى ميزانيات التغطية، وصولًا إلى سياسات المنصّات الرقمية.
حين تستعيد الذاكرة بصرها
أعاد مقال بارتوف تعريف العلاقة بين الذكرى والمسؤولية: فالهولوكوست ليس درعًا لـ"إسرائيل"، بل معيارًا ضدّ التكرار حيثما وقع، بما في ذلك غزّة. ومعه، انتقلت الصحافة الغربية - أو جزءٌ معتبر منها - من الحذر المُفرِط إلى لغة الحقيقة: إبادة، لا "أضرار جانبية"؛ تجويعٌ كسلاح، لا "حصار دفاعي"؛ هندسة محوٍ عمراني، لا "عمليات جراحية دقيقة". هذه القفزة ليست نهاية الطريق، لكنها بداية لمعركة معيارية لن تُحسم في العناوين وحدها، بل في المحاكم والبرلمانات وسياسات التصدير ومناهج الجامعات والمجال العام كلّه.
لقد فتح غلاف "بروسبيكت" ثغرةً في جدارٍ سميك، والثغرات حين تتجاور تُصبح شقًّا، ثم نافذة. ومن هذه النافذة يطلّ اليوم ضميرٌ غربيٌّ مُرتبكٌ لكنه مستيقظ: لم يعد ممكنًا التذرّع بالذاكرة لتبرير المحو، ولا الاستناد إلى الخوف لتقنين الاستثناء. وبين الهولوكوست وقطاع غزّة، سقطت أسطورة الضحية المعصومة، وبقي معيارٌ واحد يُقاس به الجميع: الإنسان والقانون. ومن يختبئان خلف الإنكار اليوم، لن يحتميا منه غدًا حين تُفتح دفاتر الحساب.