من بوابة الدين الخارجي العربي: الاقتصاد نقطة ضعف سياسية!
يبدو أن ارتفاع الديون ليس مجرد رقم في تقارير مالية، بل هو علامة على إعادة تشكيل موازين القوة في المنطقة، وعلى إمساك أطراف خارجييين بمفاتيح التأثير في القرار العربي.
-
لماذا تقترض دول غنية؟
شهدت الديون الخارجية لعدد من الدول العربية ارتفاعاً ملحوظاً خلال العام 2023، حيث ارتفع إجمالي الدين الخارجي لنحو 13 دولة عربية بأكثر من 160 مليار دولار مقارنة بالعام السابق.
ووفقاً لبيانات صندوق النقد العربي، بلغ مجموع الديون الخارجية لهذه الدول حوالي 684.3 مليار دولار في العام 2023 مقابل 524 مليار دولار في العام 2022، وهو نمو استثنائي يعكس هشاشة البنى الاقتصادية وارتباطها العميق بالتمويل الخارجي.
وبحسب القائمة التي توافرت بياناتها، جاء السودان في المرتبة الأولى بمديونية بلغت 205.3 مليارات دولار، وهو رقم يعكس القفزة غير المسبوقة في التزامات البلاد بعد اندلاع الحرب الأهلية. تليه مصر بإجمالي دين خارجي يناهز 168 مليار دولار، ثم السعودية ثالثة بـ 108 مليارات دولار، فالمغرب بـ 43.3 مليار دولار، والأردن بـ 41.1 مليار دولار. وفي المقابل، جاءت جزر القمر كأقل الدول مديونية بنحو 300 مليون دولار، تلتها جيبوتي بـ 2.7 مليار دولار.
هذه القائمة لا تشمل كل الدول العربية بسبب نقص البيانات أو غياب الشفافية في بعض الحالات، لكن الرقم الإجمالي يفتح باباً واسعاً حول أثر المديونية الخارجية على القرار السياسي العربي، خاصة في منطقة تواجه صراعات مستمرة وتدخلاً خارجياً عميقاً، من الحرب في غزة إلى أزمات السودان وليبيا واليمن.
لماذا تقترض دول غنية؟
قد يتساءل القارئ عن موقع السعودية في هذه القائمة، وهي التي تجاوزت صادراتها النفطية 225 مليار دولار في العام 2022. ورغم وفرة إيراداتها النفطية، تلجأ المملكة إلى الاقتراض الخارجي لأسباب لا ترتبط بالعجز المالي، بل بضرورات إدارة الاقتصاد الكلّي. وعادة ما تلجأ الدول الغنية للاقتراض الخارجي لعدة أسباب أبرزها ما يلي:
-الحفاظ على احتياطيات النقد الأجنبي وعدم استنزافها في المشاريع طويلة الأجل.
-الاستفادة من كلفة الاقتراض المنخفضة رغم ارتفاع أسعار الفائدة العالمية مقارنة بسنوات سابقة.
-تعزيز الحضور في أسواق الدين الدولية وتوسيع قاعدة المستثمرين.
-فصل أصول الصناديق السيادية عن احتياجات الحكومة، وهو ما يضمن استمرار تراكم الثروة السيادية من دون سحب كبير منها.
-تمويل مشاريع ضخمة تمتد لعقود، حيث يصبح الاقتراض الطويل الأجل أنسب من السحب من الاحتياطي.
وبالتالي، ليس ارتفاع الديون في حد ذاته مؤشراً على أزمة، بل يصبح كذلك عندما يترافق مع هشاشة مالية، وضعف إنتاجي، وعجز هيكلي، كما هي حال العديد من الدول غير النفطية.
أداة ضغط سياسي
رغم أن القروض والتسهيلات المالية تقدم ضمن أطر اقتصادية ظاهرة، إلا أن شروطها تتجاوز الجانب المالي إلى اشتراطات سياسية واضحة، سواء صدرت عن مؤسسات دولية أو دول مانحة أو تكتلات مالية إقليمية. فالقروض ليست أموالاً محايدة، بل أدوات لها استخدامات استراتيجية.
بعد حصول الدولة على التمويل وربما تعثرها لاحقاً في السداد، تجد نفسها أمام جدول شروط جديد أشد وطأة، يشمل تشجيع تطبيق سياسات اقتصادية بعينها مثل الخصخصة وآليات السوق الحر، إعادة هيكلة الدعم الاجتماعي وتقليصه، والالتزام بمسارات سياسية معينة تتصل بالتحالفات، والطاقة، والاتفاقيات التجارية، أو بالملفات الجيوسياسية الحساسة.
عند هذه المرحلة تصبح الدولة المقترضة واقعة فعلياً في مصيدة التبعية السياسية والاقتصادية، وتغدو أكثر حذراً في اتخاذ قرارات قد تفسر دولياً كخروج عن الخطوط المرسومة. وهذا المشهد يتكرر في عدد من الدول العربية التي تعتمد أصلاً على بنى اقتصادية هشة.
وفي حالة الدول العربية تصبح الاستدانة الخارجية أكثر تعقيداً وخطراً بالنظر إلى عدة عوامل أبرزها:
-تركيبة اقتصاداتها القائمة على إيرادات يتحكم بها الخارج أكثر من غيرها كالتحويلات، والسياحة، والمساعدات، وتصدير مواد خام، وتمويل خارجي. وهذا يجعل أي اهتزاز خارجي يؤثِر هذه الإيرادات يترجَم إلى أزمات داخلية، فيصبح الدين أداة تأثير فعلي.
-ارتباط الأنظمة بشبكات دعم خارجية متعددة سياسياً ومالياً، فالكثير من الأنظمة العربية تعتمد على دعم سياسي غربي لاستمرارها وبقائها، وبعضها يستعين بمظلة أمنية خارجية. وحتى عند الاستدانة من دول مجاورة، فإن ذلك ليس أقل تحرراً من القيود والضغوط، فمن يقدم دعماً سياسياً أو أمنياً أو مالياً تحت أي صيغة كانت هو من يملك النفوذ وسلطة التأثير في قرارات الدول المدينة.
- البعد الجيوسياسي للمديونية الخارجية للعديد من الدول العربية، والتي هي في كثير من الأحيان بمنزلة أداة أو وسيلة لضبط التحالفات السياسية في المنطقة، تمرير اتفاقيات معينة، دفع أنظمة لقبول ترتيبات أمنية أو سياسية، ضمان مواقف في ملفات حساسة من قبيل الطاقة، والتطبيع، والموانئ، وإمدادات الغاز، وخطوط النقل... الخ.
المديونية وأمثلة على التأثير السياسي
شهدت السنوات الأخيرة نماذج متعددة استخدمت فيها القوى الكبرى أدوات التمويل للتأثير على دول عربية تواجه ضائقة مالية من قبيل تعطيل أو تأخير الموافقة على برامج تمويل من مؤسسات دولية كما حصل في لبنان وتونس، الضغط عبر التصنيف الائتماني ما يرفع كلفة التمويل ويجبر الحكومة على تعديل سياساتها، والتحكم بتدفقات المساعدات والمنح بما يفرض التزامات سياسية غير معلنة. وفي ظل هذا المشهد، يصبح غياب موقف عربي موحّد تجاه قضايا مصيرية، من غزة إلى السودان، انعكاساً مباشراً لمدى الارتباط البنيوي بأنظمة التمويل الدولي.
وكمثال على المديونية الخارجية "المدمرة" ما يحصل في السودان. إذ تكشف بيانات صندوق النقد العربي صورة قاتمة عن هذا البلد، فقد ارتفع دينه الخارجي من نحو 50 مليار دولار في 2022 إلى أكثر من 205 مليارات دولار في 2023.
هذه الزيادة الهائلة البالغة حوالى 155 مليار دولار في عام واحد ناتجة عن الحرب الأهلية التي أعادت البلاد عقوداً إلى الوراء. ولو أن جزءاً يسيراً من هذه الأموال وجه إلى الزراعة أو البنية التحتية أو إعادة الإعمار، لكان بإمكان السودان أن يتحول إلى قوة اقتصادية إقليمية نظراً لثرواته الطبيعية ومساحته الزراعية الواسعة. لكن ما حدث هو العكس تماماً.. الحرب غذّت الديون، والديون غذّت التبعية، والتبعية عمّقت الانهيار.
باختصار.. عامل سياسي
المديونية الخارجية في العالم العربي لم تعد مسألة مالية فحسب، بل أصبحت عامل تشكيل سياسي بامتياز. فالدول التي ترزح تحت عبء الدين تفتقد القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، بينما الدول القادرة على التمويل تتحول، طوعاً أو قسراً، إلى أطراف فاعلة في رسم خيارات الآخرين.
ورغم اختلاف الدوافع بين دولة نفطية كالسعودية وأخرى غارقة في الأزمات كالسودان أو لبنان، يبقى القاسم المشترك هو أن الاعتماد على التمويل الخارجي يحول الاقتصاد إلى نقطة ضعف سياسية، ويجرد الحكومات من القدرة على بناء استراتيجيات طويلة الأجل.
في هذا السياق، يبدو أن ارتفاع الديون ليس مجرد رقم في تقارير مالية، بل علامة على إعادة تشكيل موازين القوة في المنطقة، وعلى إمساك أطراف خارجيين بمفاتيح التأثير في القرار العربي، بصورة مباشرة أو عبر المؤسسات الدولية.