واشنطن.. هل تنقذ الحرب ميزان التجارة المكسور؟
أن تتزامن مشاريع محاربة الدولرة، والتعامل بالعملات المحلية، وإخراج اقتصادات متعددة من التعامل بالدولار بسبب العقوبات، كل ذلك عندما يتفاعل مع العجز التجاري، تصبح المشكلة الأميركية غير مسبوقة!
في العام 1839م، أشعلت بريطانيا حرب الأفيون ضد الصين؛ ونتج منها توقيع اتفاقية نانجينغ عام 1842م؛ حيث تخلّت الصين عن جزيرة هونغ كونغ، وفتحت مرغمة 5 موانئ لاستقبال التجارة الأوروبية (الأفيون).
كان الهدف من الحرب البريطانية على الصين واضحاً ومحدداً، كسر الميزان التجاري الصيني، الذي يتمتع بالفائض بسبب تجارة الشاي والحرير والمنتجات الصينية الجذّابة للأوروبيين، على عكس المنتجات الأوروبية التي لم تكن تعني الكثير للصينيين. كانت أوروبا بحاجة إلى تصدير أي سلعة يحتاجها الصينيون، لصناعة أي نوع من الإدمان يكسر رصيد الفضة المتراكم في الصين بسبب قوة الصادرات الصينية.
عجز التجارة الأميركي الذي لا يمكن إصلاحه
تعاني الولايات المتحدة أزمة أكثر تعقيداً مع الصين، عنوانها أيضاً "خلل الميزان التجاري"؛ إذ بلغ العجز في الميزان التجاري الأميركي خلال السنوات الماضية 700-900 مليار دولار، أغلبه متأتٍ من التجارة مع الصين؛ في حين أن لدى الصين فائضاً تجارياً بلغ في الأشهر الـ11 الأولى من عام 2024 أكثر من 800 مليار دولار.
لا تمتلك واشنطن خيارات مماثلة لتلك البريطانية في حرب الأفيون، فالبحث عن سلعة "إدمانية" بحاجة إلى ظروف هشّة، تشبه تلك التي عاشتها أسرة تشينغ في الصين في القرن التاسع عشر، في حين أن مؤشرات التماسك الاجتماعي الصيني اليوم في أحسن حالاتها تاريخياً. كما أنّ إدخال سلعة بالقوة غير ممكن في ظل الإمكانات العسكرية المتطورة للجيش الصيني، التي لا تشبه حالة التخلف العسكري التي عاشتها الصين في القرن التاسع عشر.
لدى ترامب فكرة أخرى (لو افترضنا جدلاً أنها فكرته الخاصة، وليست فكرة الدولة العميقة في الولايات المتحدة)، وهي باختصار تعقيد شروط التجارة الصينية وتسهيل شروطها الأميركية؛ البحث عن أدوات ترفع التكلفة على الصادرات الصينية، وتخفّض من مزاياها التنافسية، وأدوات مماثلة تخفّض تكاليف الواردات الأميركية، ومن ذلك مثلاً الحماية الجمركية الإغلاقية على البضائع الصينية في الأسواق الأخرى، ورفع رسوم المرور في الممرات المائية والبرية المختلفة، والتموضع الأميركي في مواقع جغرافية تقطع الطريق على مبادرات صينية لبناء طرق وممرات تجارية؛ وهذا كلّه يتوافق تماماً مع فكرة ضمّ كندا وغرينلاند والسيطرة على قناة بنما.
ولكن، لماذا يمكن أن يكون العجز في الميزان التجاري مشكلة أصلاً بالنسبة إلى واشنطن؟ ولماذا الآن؟ أليس العجز في ميزانها التجاري قائماً منذ سنوات؟ بل إن آخر قيمة موجبة في الميزان التجاري الأميركي كانت في منتصف السبعينيات، وبعدها لم تشمّ واشنطن رائحة القيمة الموجبة.
حلّت واشنطن هذه الأزمة تاريخياً بسلاحين؛ أولاً هيمنة الدولار في التبادل والاحتياطات وثانياً القوة العسكرية؛ واليوم بدأت هذه الأدوات تضعف في إدارة الاقتصاد العالمي، أقله في مواجهة تحديات الصين وروسيا. تكمن أزمة واشنطن اليوم في تزامن تفاقم العجز التجاري مع تراجع هيمنة الدولار في وقت واحد ( نسبته من الاحتياطي العالمي، ونسبته من مجمل التبادلات المالية عابرة الحدود).
أن تتزامن مشاريع محاربة الدولرة، والتعامل بالعملات المحلية، والدعوة إلى إنتاج عملات جديدة، وأنظمة مالية جديدة بديلة عن سويفت، وإخراج اقتصادات متعددة من التعامل بالدولار بسبب العقوبات، كل ذلك عندما يتفاعل مع العجز التجاري، تصبح المشكلة الأميركية غير مسبوقة!
ما علاقة غرينلاند وبنما؟
لا تشكل البيئة ملفاً ذا أهمية بالنسبة إلى دونالد ترامب؛ وكان انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ في الدورة الأولى تأكيداً على ذلك، ولسان حاله يقول دعوا سفن السلام الأخضر (Green peace) تجول المحيطات بحثاً عن انتهاكات دفن النفايات النووية، سنفعل ذلك عندما يحقق الأمر مزيداً من الأرباح. يأتي تعيين ترامب لـ زيلدين مسؤولاً عن ملف البيئة في هذا السياق؛ فزيلدين مهتم في تأمين فرص جديدة للعمل في مجال الطاقة أكثر من اهتمامه في المخاطر البيئية!
مع التغيرات المناخية التي لا يعيرها ترامب الكثير من الاهتمام، بات البحث عن "جسر قطبي" كممر للتجارة عبر القطب الشمالي، مع ذوبان الكتل الجليدية أمراً ممكناً، لذلك تصبح غرينلاند نقطة حساسة للولايات المتحدة في التنافس على الطرق التجارية مع الصين وروسيا، ناهيك بعوامل أخرى كاحتوائها على مروحة واسعة من العناصر الثمينة (الذهب، النحاس، الزنك، اليورانيوم، التيتانيوم، إلخ..)، وكذلك أهمية الأركتيك كمنطقة للردع النووي.
لا تمتلك الدنمارك الكثير من أدوات الردع العسكرية لمنع تمرير المخطط، إن كان جدياً، فالدولة لم تخصص الكثير للقطاع العسكري، وهي تحتل الترتيب 45 عالمياً حسب تصنيف Global Fire Power. كما أنها مرتهنة في اقتصادها للقطاع المصرفي العالمي، وتشكل الأصول المصرفية فيها أكثر من 264% من ناتجها الإجمالي، بنسبة تفوق الاقتصادات المتماسكة أوروبياً، كما هي الحال في ألمانيا مثلاً، والأهم أنها ليست ذات خبرة كافية في هذا النوع من المواجهات مع الولايات المتحدة.
في بنما تبدو الصورة مختلفة؛ فإذا كانت التغيرات المناخية تحوّل غرينلاند إلى فرصة استثمارية جذابة، فالتغيرات المناخية في بنما تقلل من أهمية القناة؛ فعوامل الجفاف وتراجع مستوى المياه فيها، تضغط باتجاه تقليل عدد السفن التي تمرّ فيها؛ ولكن يبقى فيها عدد من العناصر التي تثير شهية ترامب؛ فلا بدائل كثيرة عنها في الوصل بين المحيطين الهادئ والأطلسي، وهي مستمرة في عائدات جيدة تصل إلى 5 مليار دولار، يقدر عدد من التقارير 3.5 مليار ربحاً صافياً منها، ناهيك بحاجة الصين إليها، التي طوّرت علاقاتها مع بنما، وصنّفتها دولة ذات أفضلية Most Favored nations عام 2018. وثمة عامل آخر مهم بالنسبة إلى واشنطن، وهو اعتبار بنما جزءاً من السياسة العامة في الضغط على أميركا الوسطى واللاتينية، التي كانت سمة عامة في إدارة ترامب الأولى.
لبنما محطات ساخنة للحفاظ على قناتها وسيادتها عليها، ومن ذلك ما ذكره جون بيركنز في كتابه المعروف "اعترافات قاتل اقتصادي"، ورفض جنرال بنما "عمر توريخوس" الاستغناء عن القناة، ورفضه عروضات القروض المقدمة من الشركات العالمية المانحة، بهدف توريط بنما في القروض وصولاً إلى اضطرارها تأجير القناة أو الاستغناء عنها.
أميركا والعولمة والحرب
مع دونالد ترامب، تظهر صورة أخرى للولايات المتحدة، تختلف تماماً عن حرصها التاريخي السابق على تصدير صورة راعي مشروع العولمة، وهذا الراعي الذي يظهر اهتمامه بملفات حقوق الإنسان والديمقراطية "التمويه القيمي"، لم يعد يهتم بهذه الصورة ( حتى في ظل إدارة الديمقراطيين).
اليوم، عندما تصرح واشنطن برغبتها في ضم غرينلاند وكندا والسيطرة على قناة بنما، تنقلب صورتها من "راعي مشروع العولمة" إلى دولة قومية تطمح إلى التوسع التقليدي.
هي مقارنة بين صورتين، قوة إمبراطورية عالمية، تصل إلى أهدافها بالاحتلال (العراق وأفغانستان) ومحاولات تغيير الأنظمة أو خلخلتها ( إيران وروسيا وأميركا اللاتينية) وقوة تقليدية تطمح إلى تطويب أراض جديدة باسمها، وهذا وحده كاف للتدليل على منحنى الهبوط الأميركي، الذي يعبّر عنه تيار أكاديمي واسع (declinist).
المعركة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تسير بسرعة لصالح بكين، فالاقتصاد الصيني نما في 4 عقود 4 أضعاف ما نماه الاقتصاد الأميركي، ومنذ عام 2008م، أضافت الصين كل 4 سنوات ما يكافئ اقتصاد الهند إلى اقتصادها، وجميع المؤشرات الاقتصادية الجدية في التصنيف هي لصالح الصين؛ لذلك لا يوجد حلول سلمية تمتلكها واشنطن لتغيير اتجاه الحركة، فهل تشعل العالم بالموجة الأسخن من الحروب؟
يقف العالم أمام خيارين؛ إما القبول الأميركي بولادة نظام دولي جديد، أساسه خسارتها الاقتصادية، أو التعنت والذهاب إلى حروب أكثر؛ وتبدو واشنطن أقرب إلى الخيار الثاني!