"إسرائيل": الابتزاز كسياسة عامة

الابتزاز السياسي بات سِمة متأصلة في بنية الحكم الائتلافي الإسرائيلي، لا مجرد استثناء ظرفي، ويبدو أن الصراع على قانون التجنيد بات يتجاوز حدود الخلاف.

0:00
  • أزمة تجنيد الحريديم في
    أزمة تجنيد الحريديم في "إسرائيل".

يعد تشكيل حكومات أغلبية (من حزب واحد) في "إسرائيل" أمراً نادراً جداً ويكاد يقال إنه لم يحدث في تاريخ الكيان. ولعل لذلك أسباباً متعددة أبرزها اعتماد نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي ومقياس الدائرة الواحدة، وتُوزع مقاعد الكنيست بحسب نسبة الأصوات التي يحصل عليها كل حزب.

إضافة إلى ما سبق، تسهم التعددية الحزبية في "إسرائيل" في تشتيت المقاعد والأصوات. وبناء ًعلى هذين المعيارين، يصعب على أي حزب بمفرده أن يحصل على أغلبية النصف زائداً واحداً.

وهكذا، يعتمد الحكم على ائتلافات تجمع أحزاباً متعددة يتعين عليها التفاوض والتوصل إلى تسويات لتحقيق أغلبية تشريعية. لكن الحكومات الائتلافية، ورغم ضرورتها في أنظمة الأحزاب المتعددة، هي عرضة بطبيعتها لعدم الاستقرار الناتج أما عن المناورات السياسية للأحزاب المشاركة فيها، أو عن "الابتزاز السياسي"، حيث تلجأ الأحزاب الصغيرة، وغالبًا ما تكون أيديولوجية، إلى استغلال موقعها الحاسم لانتزاع تنازلات سياسية كبيرة تحت تهديد حلّ الائتلاف. 

ويُعدّ مفهوم "إمكانات الابتزاز" الذي طرحه جيوفاني سارتوري عام 1976 أساسًا في فهم هذه الديناميكية. حيث أشار إلى أن أهمية الحزب في النظام السياسي لا تُقاس فقط بحجمه أو "إمكاناته الائتلافية"، بل أيضًا بقدرته على التأثير في ديناميكيات التنافس السياسي، وخصوصًا عندما يغيّر هذا التأثير اتجاه المنافسة. بعبارة أخرى، يمكن لحزب يمتلك "إمكانات الابتزاز" أن يجبر الأحزاب الأخرى، خاصة تلك المشاركة في الحكم، على تعديل استراتيجياتها لتفادي نتائج سلبية، مثل انهيار الحكومة.

تتأثر مصداقية وفعالية تهديدات الابتزاز أيضًا بدوافع الأحزاب. حيث تُصنف الأحزاب عادةً إما على أنها تسعى للمناصب (تركز على الحصول على مناصب وزارية ومزاياها) أو تسعى للسياسات (تركز على تحقيق أهداف أيديولوجية محددة). وغالبًا ما تكون الأحزاب التي تمثل مصالح أيديولوجية أو طائفية محددة مستعدة للمخاطرة بانهيار الحكومة إذا لم تُلبَّ مطالبها الأساسية، ما يجعل تهديدها أكثر مصداقية، وهي الحال في قضية تجنيد الحريديم في "إسرائيل".

أزمة تجنيد الحريديم في "إسرائيل"

منذ تأسيس "إسرائيل"، تم إعفاء الرجال الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية بهدف التفرغ للدراسة الدينية. ومع مرور الوقت وتزايد أعدادهم، أصبح هذا الإعفاء نقطة خلاف رئيسية داخل المجتمع الإسرائيلي، لأنه يخلّ بمبدأ المساواة بين المواطنين.

تزايدت حدّة الأزمة، مع استمرار الحرب الدائرة في غزة، وتركيز المجهود العسكري على جنود الاحتياط، مع ما في ذلك من خسائر على الاقتصاد وعلى العائلات. وتفاقمت القضية بين نتنياهو وحلفائه من اليمين، بعد تأكيد قرار المحكمة العليا بعدم قانونية الإعفاء، والطلب من الجيش القيام بالتجنيد.

وتضغط الأحزاب الحريدية على الائتلاف الحاكم لإقرار قانون يعفي عددًا كبيرًا من الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية، مهددين بالانسحاب من الحكومة ما لم يتم إحراز تقدم بشأن الإعفاء، ما يجعل نتنياهو والليكود أمام معضلة الخيار بين احتمالين أحلاهما مرّ:

أ‌- الخضوع للأحزاب الدينية والإعفاء من التجنيد من أجل الحفاظ على الحكومة، وبالتالي مخالفة قرار المحكمة العليا وتوصيات الجيش بالتجنيد... وهو أمر يرفضه العديد من شرائح المجتمع، وقد صدرت أصوات داخل الائتلاف الحكومي تنتقد التنازل في هذا الملف والخضوع لابتزاز الأحزاب الدينية.

وكانت صحيفة معاريف قد نقلت أن يولي إدلشتاين، رئيس لجنة الدفاع في الكنيست، من بين نواب الليكود الذين يُصرّون على وجوب تجنيد الحريديم وأن يواجه المتهربون من الخدمة عقوبات قانونية. ودافعت المتحدثة باسمه، مايان سامون، عن هذا الموقف، فكتبت على موقع X: "نحن في واقع النضال من أجل وطننا، بينما يترنح إخواننا تحت وطأة خدمة الاحتياط، وتنهار عائلاتهم ويلجأ الأزواج إلى الطلاق بسبب هذا الضغط".

ب‌- عدم الرضوخ لابتزاز الأحزاب اليمينية، مع ما ينتج عن ذلك من أخطار تهدد الائتلاف الحكومي. تشير تقارير صحافية إلى أن حزب يهدوت هتوراة قد ينضم إلى تصويت حجب الثقة، والتي قد تؤدي، في حال إقرارها، إلى حل الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة. مع العلم، أن هناك أكثر من 15 مشروع قانون لحل الكنيست قيد النظر حاليًا، بعضها من المعارضة والبعض الآخر طرحه أعضاء كنيست من الائتلاف سعيًا وراء نفوذ سياسي مع تقدم الدورة الصيفية.

وهكذا، وفي ضوء ما تكشفه أزمة تجنيد الحريديم في "إسرائيل"، يتضح أن الابتزاز السياسي بات سِمة متأصلة في بنية الحكم الائتلافي الإسرائيلي، لا مجرد استثناء ظرفي، ويبدو أن الصراع على قانون التجنيد بات يتجاوز حدود الخلاف السياسي المعتاد، ليصبح اختبارًا حاسمًا لبقاء الحكومة نفسها. 

وتكشف هذه الأزمة وما حولها واستمرار الحرب على قطاع غزة، عن مؤشرات السياسة الداخلية الإسرائيلية، والتي تفيد:

أولًا، بأن السياسات العامة تعمل لمصلحة مصالح فئوية ضيقة، كما يتجلّى في الإصرار على إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية رغم المعارضة الواسعة، وعلى استمرار الحرب على غزة بالرغم من تزايد نسبة المؤيدين لانتهائها وأولوية الإفراج عن الرهائن.

ثانياً، بتآكل الثقة الشعبية في ديمقراطية النظام الإسرائيلي، إذ يرى كثيرون أن القرار السياسي بات رهن قرار إما المرجعيات الدينية المتطرفة أو نتنياهو وزوجته.