"إسرائيل" ومُعضلة نفاد الخيارات!

بفعل سياسة الإفقار والتجويع الظالمة، تبدو خيارات العدو وقيادته اليمينية المتطرّفة في طريقها للنفاد، أو كما يعتقد البعض وبينهم محللون وخبراء إسرائيليون كبار قد نفدت بالفعل.

  • ما هي الخيارات المُتاحة أمام نتنياهو؟
    ما هي الخيارات المُتاحة أمام نتنياهو؟

كنّا قد كتبنا في أيار/مايو الماضي، أي منذ انطلاق ما سُمّيت حينذاك بعملية "عربات جدعون" العدوانية، والتي كانت تسعى من خلالها "إسرائيل" بحسب إعلانها لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه خلال المرحلة الأولى من حربها الإجرامية ضد قطاع غزة، أنّ الفشل سيكون مصير تلك العملية، وأنها لن تكون أفضل حالاً من سابقاتها، وأنّ حرب الإبادة الجماعية، والتدمير الممنهج اللتين تمارسهما من دون هوادة، لن تنجحا في دفع الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة إلى رفع رايات الاستسلام، ولن تكونا سبباً مباشراً أو ثانوياً في إجباره نحو الذهاب إلى القبول بحلول ظالمة تصادر ما حقّقه من إنجازات خلال هذه الشهور الطويلة من الصبر والثبات، على الرغم مما قدّمه من خسائر وتضحيات بشرية ومادية هائلة، تكاد تكون الأكبر خلال تاريخه الطويل من رحلة الجهاد والمقاومة.

اليوم وبعد أن بات واضحاً للجميع، وفي المقدّمة منهم القيادتان السياسية والعسكرية في "الدولة" العبرية أنّ عمليتهم الواسعة التي تمّ التسويق لها بصورة مبالغ فيها، وإظهارها في صورة البطل الخارق الذي لا يُشقّ له غبار قد فشلت، ولم تحقّق أيّاً من أهدافها باستثناء تدمير جزء كبير من المناطق العمرانية في محافظتي غزة وخان يونس بشكل خاصّ، إلى جانب قتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، والذين سقطوا بفعل السلاح "الإسرائيلي" المقبل من أكبر دولة في العالم.

وبفعل سياسة الإفقار والتجويع الظالمة، تبدو خيارات العدو وقيادته اليمينية المتطرّفة في طريقها للنفاد، أو كما يعتقد البعض وبينهم محللون وخبراء إسرائيليون كبار قد نفدت بالفعل، وأنّ ما يتمّ التبشير -التهديد- به من خيارات جديدة، قد يتمّ اللجوء إليها في حال رفض المقاومة الإذعان للشروط المجحفة التي تحاول أميركا و"إسرائيل" فرضها عليها ليس سوى فزّاعة، يُراد من خلالها تحقيق إنجاز ما قد يُساعد في نزول نتنياهو وحكومته المتطرّفة عن الشجرة، بعد أن كانوا يبشّرون طوال الشهور الفائتة بالنصر المُطلق، وبتحقيق أهداف الحرب كاملة من دون نُقصان.

خلال الأيام المقبلة ستكون "إسرائيل" أمام تحدٍّ أساسي ربما لم تواجهه منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، وستكون ملزمة أمام أنصارها من قوى أقصى اليمين للإجابة عن جملة من التساؤلات، سيكون من ضمنها ماذا حقّقت الحرب الأطول في تاريخ "الدولة"؟ ولماذا لم يستطع "الجيش الأسطوري" بكلّ ما يملكه من إمكانيات أن يحقّق نصراً حاسماً على مقاومة يزعُم أنها انهارت وتفكّكت منذ نحو اثنين وعشرين شهراً؟ وهل استحقّت تلك الحرب التي وُصفت بالوجودية كلّ تلك الخسائر على الصعيدين البشري والاقتصادي، إلى جانب تضرّر صورة "إسرائيل" في العالم بدرجة لم يتوقّعها معظم الإسرائيليين"؟ 

إلا أنّ السؤال الأبرز والذي يتم تداوله بكثافة بين كلّ الإسرائيليين منذ أيام هو ماذا بعد؟ وما هي الخيارات المُتاحة أمام نتنياهو وائتلافه المجرم لمواجهة هذا الإخفاق المتكرّر والمتواصل، والذي لم يترك وسيلة إلا واستخدمها لدفع الفلسطينيين نحو التراجع والاستسلام، ونحو إجبارهم على التسليم بمشيئة المحتل وداعميه في المنطقة وحول العالم، والذين رموا شعب غزة المُحاصر والمنكوب عن قوس واحدة، مستخدمين مروحة واسعة من الوسائل والأدوات غير المشروعة، والتي كان آخرها اللجوء لسياسة التجويع المحرّمة وفق كلّ القوانين والمعاهدات الدولية. 

منذ نحو أسبوعين تعكف وسائل الإعلام الإسرائيلية على التسويق لعدّة خيارات، قد تلجأ إليها الحكومة الصهيونية أو إلى بعضها لمواجهة أزمة سقوط أهداف الحرب والفشل في تحقيقها، وهي بذلك تحاول ضرب عصفورين بحجر واحد؛ الأول هو عصفور تهدئة الرأي العام الإسرائيلي، والذي كما تشير الكثير من استطلاعات الرأي قد فقد الثقة في رئيس وزرائه المأزوم، وفي "جيشه" الذي بات يعاني الكثير من الأزمات، والعصفور الثاني هو ممارسة المزيد من الضغط على المقاومة في غزة لتقديم جملة من التنازلات التي رفضت تقديمها طوال المرحلة الأخيرة من المفاوضات، وفي المقدّمة منها مسألة تسليم سلاحها، إلى جانب استمرار وجود قوات الاحتلال على مساحة واسعة من أراضي القطاع.

من جملة الخيارات التي يتمّ تناولها في وسائل الإعلام العبرية هو توسيع العملية العسكرية في قطاع غزة، ودخولها في مرحلة الهجوم الشامل الذي تسيطر من خلاله على كامل أرجاء القطاع، بما يضمن بحسب تلك الوسائل تحقيق سيطرة عملياتية غير مسبوقة، وإلى فرض وقائع ميدانية جديدة قد تؤدي إلى بلورة موقف طال انتظاره، وإلى تحقيق نتائج بذلت "إسرائيل" وحلفاؤها القريبون والبعيدون جهوداً مضنية للوصول إليها.

في مثل هكذا سيناريو قد يضطر "جيش" الاحتلال إلى الاستعانة بكامل فرقه القتالية مرة أخرى، وإلى استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط الذين باتوا يتهرّبون من الخدمة العسكرية، وتعمّد جزء كبير منهم بحسب تقارير رسمية التفلّت من الالتحاق بوحداتهم القتالية، وهو الأمر المرشّح للازدياد في حال إقرار عملية عسكرية واسعة جديدة، يحاول من خلالها العدو كما أسلفنا ستر عورة عملياته السابقة، والتغطية على الفشل والإخفاق الكبيرين اللذين مُنيَ بهما آنذاك.  

وفقاً لكلّ التقديرات فإنّ اللجوء إلى هكذا خيار لن يكون ناجحاً، ولن يؤدِّ احتلال غزة بالكامل في حال حدوثه إلى إحداث أيّ اختراق لافت في موقف المقاومة الصلب، ولا في موقف الشعب الفلسطيني وصبره وثباته اللذين فاقا كلّ التوقّعات، ولن تجنِ "إسرائيل" سوى خيبات أخرى لطالما حصدتها خلال الأشهر الماضية.

خيار آخر يتمّ التسويق له إسرائيلياً وهو عبارة عن إبقاء الأمور على ما هي عليه من دون حلّ سياسي واضح، أو اتفاق هدنة مُعلن، أي أن تبقى قوات الاحتلال في المناطق التي توجد فيها حالياً، والتي تُقدّر مساحتها بحسب المصادر الإسرائيلية بنحو 70 بالمئة من مساحة القطاع الإجمالية، مع التنويه إلى أنّ هذا الوجود لن يكون كلّه من خلال وجود قوات عسكرية على الأرض، وإنما عن طريق السيطرة بالنار من خلال سلاحَي الجو والمدفعية الصهيونيين، واللذين يعتمد عليهما "جيش" الاحتلال بكثافة لفرض سيطرته على مناطق واسعة من القطاع، حتى تلك التي لا تُصنّف بأنها مناطق حمراء يحظر الوجود أو التحرّك فيها.

هذا الخيار يبدو مرجّحاً في ظلّ تعثّر مفاوضات التهدئة، إذ إنه يقلّل من جانب الاحتكاك مع مقاتلي المقاومة الذين وجّهوا ضربات قاتلة لـ "جيش" الاحتلال خلال الأسابيع الأخيرة، ومن جانب آخر يخفّض تكلفة استمرار الحرب على الجانب الإسرائيلي إلى حدّها الأدنى، وهو الأمر الذي يميل إليه بشدّة رئيس الأركان الحالي إيال زامير.

الخيار الثالث الذي تتمّ دراسته إسرائيلياً، وتفضّله أجهزة الاستخبارات في الكيان الصهيوني، هو فرض حصار مُطبق على سكّان القطاع، ولا سيّما أولئك الموجودين في المنطقة الشمالية منه، والذين تُقدّر أعدادهم بحسب إحصائيات غير رسمية بنحو مليون وربع المليون نسمة.

وفق هذا الطرح سيتمّ تقسيم قطاع غزة إلى مناطق صغيرة، يُطلق عليها إسرائيلياً مُسمّى "الجزر"، وهي أقرب ما تكون إلى كانتونات متباعدة تفصل بينها حواجز ومحاور على غرار محوري نتساريم وموراج، أو ما يتمّ الترويج له من محاور جديدة مثل محوري كيسوفيم بين خان يونس والمنطقة الوسطى، ومفلاسيم الذي يفصل محافظة شمال غزة عن مدينة غزة. 

في حال تمّ اللجوء إلى هذا الخيار يمكن أن تواجه "دولة" الاحتلال موجة جديدة من الانتقادات الدولية، والتي دفعتها في الأسبوعين الأخيرين لتخفيف حصارها للقطاع، وللسماح ببعض المساعدات على محدوديتها للدخول إلى السكان الموجودين فيه، وعرّضتها لتهديدات أوروبية بفرض عقوبات اقتصادية ومقاطعة سياسية قد تزيد من عزلتها التي باتت أكثر وضوحاً من أيّ وقت سابق.   

على كلّ حال قد تبدو الخيارات سالفة الذكر وغيرها مما لم يُكشف عنه خطيرة للغاية، وهي تُبشّر بمرحلة جديدة من العدوان الذي تجاوز في حجمه ووقته كلّ التوقّعات، إلا أنّ الأحداث السابقة التي مرّت خلال هذه الحرب العدوانية المجرمة تشير إلى أنّ الإخفاق والفشل سيكونان من نصيب "دولة" الاحتلال، وأن ما لم تستطع تحقيقه خلال هذا الوقت الطويل، لن تتمكّن من تحقيقه في ظل ما تواجهه من أزمات، وما تعانيه من مصاعب.

الشيء الأكيد الذي لا نشك لحظة في حدوثه هو أنّ شعبنا الفلسطيني العظيم، ومن ورائه مقاومته الباسلة والأبيّة لن يسمحا للعدو بتحقيق أهدافه الإجرامية، وسيواصلان على الرغم من حجم التضحيات الهائلة هذه المسيرة الطويلة من البذل والعطاء، حتى يصلا في نهاية المشوار إلى ما يصبوان إليه، وهو من دون أدنى شك النصر الأكيد، والفتح المبين، رغم أنف الاحتلال وأعوانه في المنطقة والعالم.