"جيش" إسرائيلي "ثقيل" في مواجهة حرب عصابات.. ماذا يحدث في غزة؟
في معركة غزة يمكن أن تتحوّل منحة حيازة "جيش" الاحتلال على إمكانيات هائلة وحديثة مثل الدبابات والمدرّعات، إلى محنة يجعلها تتعرّض كما جرى في الأشهر الماضية من الحرب إلى خسائر فادحة.
-
هناك عراقيل كثيرة تعترض طريق العملية الإسرائيلية ضدّ مدينة غزة.
كتبنا قبل ثلاثة أسابيع تقريباً عن العملية العسكرية الإسرائيلية ضدّ مدينة غزة، وأشرنا حينها إلى عدة سيناريوهات مُتوقّعة لتلك العملية سواء على مستوى النشاط العسكري العملياتي، أو فيما يتعلّق بالنتائج المحتملة التي يمكن أن تنتج عن تلك العملية.
منذ تلك الفترة وحتى الآن فضّلنا التوقّف عن الكتابة حتى نرى ما يحدث في الميدان، وحتى نقف على كثير من التفاصيل التي كانت بحاجة لبعض الوقت حتى تتّضح بصورتها الشاملة، مفضّلين عدم الاعتماد على الضخّ الإعلامي الإسرائيلي الهائل الذي يُستخدم جزء منه في الحرب النفسية ضدّ سكّان أكبر مدن القطاع، إلى جانب محاولة تضليل فصائل المقاومة ومحاولة خداعها في إطار التحرّك البرّي المرتقب.
منذ عدّة أسابيع لم تكد التفجيرات الضخمة الناتجة عن انفجار الروبوتات المفخّخة، وعمليات القصف الجوّي تتوقّف، وهي تُسمع بشكل واضح من مسافات بعيدة جداً، يصل بعضها إلى أكثر من ثلاثين كيلومتراً، إذ بات بإمكان المواطنين الموجودين في أقصى جنوب مواصي خان يونس، حيث ما تُسمّى "المنطقة الإنسانية" المُعلنة من قِبل "جيش" الاحتلال سماع أصوات تلك التفجيرات الهائلة، والتي تُستخدم فيها كميات ضخمة من المتفجّرات، اطّلعنا على بعضها بعد تراجع "جيش" الاحتلال من حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، حيث تسبّب عطل فنّي كما يبدو في عدم انفجار أحد الروبوتات وبقي على حاله إلى جوار ما تبقّى من مساكن المواطنين، وتبيّن حجم ما يحتويه من متفجّرات قادرة على تدمير مربّع سكني قد يصل قطره بحسب الجهات المختصّة إلى ثلاثمئة متر مربّع.
كلّ هذه التفجيرات وعمليات القصف تهدف إلى تمهيد مسرح العمليات لتوغّل القوات البرية لـ "جيش" الاحتلال، وهي تحاول من جهة تدمير أكبر مساحة ممكنة من المناطق العمرانية التي تشتهر بها مدينة غزة لتسهيل حركة الآليات الصهيونية، إضافة إلى حرمان المقاومين من نقطة قوة تصبّ في مصلحتهم، ومن جهة أخرى دفع أكبر عدد ممكن من سكّان المدينة إلى النزوح عنها باتجاه منطقتَي الوسط والجنوب.
وهذا الأمر تحديداً يُعتبر هدفاً أساسياً للعملية العسكرية ضدّ مدينة غزة، وهو أحد أهم أهداف الحرب على القطاع، ويهدف في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي إلى تفريع قطاع غزة من مئات الآلاف من سكّانه باتجاه مناطق أخرى من المنطقة والعالم، ما يسمح لاحقاً بفرض سيطرة أمنية كاملة على من تبقّى من السكّان، واستغلال تفريغ الأراضي من سكّانها لعودة المستعمرات الصهيونية التي يتمّ العمل على مخطّطات إقامتها، وتوقيع العقود الخاصة بساكنيها من المستوطنين على قدم وساق.
بحسب مجريات الميدان حتى الآن هناك عراقيل كثيرة تعترض طريق العملية الإسرائيلية ضدّ مدينة غزة، إذ تساهم هذه العراقيل في بروز حالة من البطء الشديد خصوصاً على صعيد التحرّك البرّي، والذي يتمّ حالياً من خلال فرقتين عسكريتين، ومن المُتوقّع انضمام فرقة ثالثة إليهما قريباً، فعلى الرغم من تدمير مساحات واسعة من المباني في مناطق الزيتون جنوب غزة، والتي تُعتبر محور تقدّم أساسياً كما تشير الكثير من المعطيات، وفي مناطق الزرقا والشيخ رضوان شمال المدينة، والتي تهاجمها قوات الاحتلال من الاتجاهين الشرقي حيث حيّ التفّاح أو ما تبقّى منه، ومن الاتجاه الشمالي حيث منطقة جباليا البلد المدمّرة، إلّا أنّ الآليات الإسرائيلية تفشل حتى الآن في إحداث اختراق عرضي أو طولي واضح وثابت، أو الوصول إلى عمق المدينة في مناطق غزة القديمة والدرج والصحابة والرمال، أو حتّى باتجاه عمق حيّ الزيتون الذي اضّطرت لإعادة التموضع في أطرافه الجنوبية باتجاه محور نتساريم، والشرقية قرب مواقعها المنتشرة على الحدود الشرقية من القطاع، أو الدخول إلى قلب منطقة الشيخ رضوان ذات الكثافة السكّانية الكبيرة، والتي ما زالت تحتفظ بجزء كبير من مناطقها العمرانية أيضاً.
في هاتين المنطقتين تحديداً، واللتين تعرّضتا وما زالتا لموجات من القصف المتتالي، اضطرت قيادة "جيش" الاحتلال إلى إعادة رسم خططها العملياتية من جديد، وهذا ما يشير إليه بوضوح التغيّر الحاصل في سير عمليات التوغّل على الأرض، وفي إطالة أمد عمليات القصف الجوي الذي أعلن وزير حرب العدو سابقاً أنه يحتاج إلى ثمانٍ وأربعين ساعة فقط لتدمير أبراج غزة ومعالمها العمرانية تمهيداً للغزو البرّي، إلّا أنّ ذلك الأمر كما يبدو لم ينجح، وهذا ما يتّضح من استمرار عمليات القصف بهذا النسق المرتفع حتى الآن.
في جنوب غزة اضطرت آليات "جيش" الاحتلال إلى تنفيذ استدارة ميدانية باتجاه منطقة تل الهوا جنوب غرب المدينة، مبتعدة قدر الإمكان عن حيّ الزيتون الذي واجهت فيه مقاومة شرسة، مفضّلة التوغّل من أطراف تل الهوا الجنوبية الخالية تقريباً من السكّان، والتي تُعتبر من الناحية العسكرية خاصرة رخوة لمدينة غزة لأسباب كثيرة تحدّثنا عنها سابقاً، محاولة التقدّم باتجاه مناطق الرمال الجنوبي أو محاصرتها على أقلّ تقدير، إضافة إلى تموضعها قريباً جداً من خط الرشيد "البحر"، الطريق الوحيد المُتاح للتنقّل من غزة باتجاه الجنوب أو العكس، وساعية كما يبدو إلى فرض حصار مُطبق لا نراه بعيداً على كامل الحدود الجنوبية لمدينة غزة.
شمالاً تستمر محاولات التقدّم من المسار الحالي نفسه المُشار إليه أعلاه، مُضافاً إليه مسار جديد يمرّ من منطقة الكرامة وأبراج المخابرات شمال غرب المدينة، حيث يتمّ توسيع خط الهجوم من الشرق باتجاه الغرب، والذي يسعى "جيش" الاحتلال من ورائه إلى دفع المواطنين للخروج من مناطقهم في الشيخ رضوان والتفاح الغربي والزرقا ومنطقة المشاهرة باتجاه عمق المدينة، تمهيداً لدفعهم إلى المناطق الغربية حصراً في معسكر الشاطئ والرمال الشمالي ومنطقة الميناء قرب مشفى الشفاء، في محاولة لدفعهم لاحقاً للنزوح جنوباً كما كان الأمر في بداية العدوان.
من أهمّ المعيقات التي تقف حتى الآن في وجه نجاح "جيش" الاحتلال في تحقيق اختراق حقيقي وواضح، أو في تمكّن قواته من التموضع الثابت في المناطق التي يهاجمها، هو اعتماده الكامل على الآليات العسكرية المصفّحة، سواء دبابات الميركافا ذائعة الصيت، والتي تعرّضت لانتكاسة حقيقية في قطاع غزة، أو ناقلات الجند ثقيلة الوزن وكبيرة الحجم من طراز النمر وإيتان وغيرهما، والتي بدورها لم تصمد رغم تدريعها وتحصينها في وجه العبوات الناسفة محليّة الصنع التي تستخدمها المقاومة الفلسطينية، والتي تحوّلت على الرغم من بدائيتها إلى رعب يلاحق جنود الاحتلال، الذين لا يجرؤون على الخروج من آلياتهم، حتى في المناطق التي يدّعي "جيش" الاحتلال فرض سيطرة عملياتية مطلقة عليها.
ومع أنّ استخدام "جيش" الاحتلال للآليات المصفّحة الثقيلة يمنحه ميزة كبيرة في مواجهة مقاتلي المقاومة، ويعطيه قدرة على التدمير والتخريب والتقدّم، إضافة إلى فتح الطرقات والممرات، وتهيئة مسارح العمليات، إلّا أنّه من جهة أخرى يحرمه من إمكانية القيام بمناورة عسكرية سريعة، إضافة إلى تحويل تلك الآليات لفرائس سهلة لآلاف المقاتلين المنتشرين في مختلف المناطق، والذين على الرغم من السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الأجواء، من خلال مئات الطائرات المسيّرة التي لا تغيب لحظة واحدة، إلّا أنّهم ينجحون في معظم الأحيان في التخفّى سواء من خلال الأنفاق، أو في بقايا البيوت المدمّرة، وتنفيذ إغارات ناجحة وقاتلة ضدّ آليات الاحتلال والجنود المختبئين بداخلها، مستخدمين ما بين أيديهم من قذائف مضادة للدروع يُطلقونها من مسافات قريبة للغاية لزيادة فعّاليتها التدميرية، أو من خلال العبوات الناسفة الأرضية كبيرة الحجم، أو الصغيرة التي يتمّ رميها داخل قُمر القيادة للآليات الصهيونية المختلفة.
في معركة غزة يمكن أن تتحوّل منحة حيازة "جيش" الاحتلال على إمكانيات هائلة وحديثة مثل الدبابات والمدرّعات، إلى محنة يجعلها تتعرّض كما جرى في الأشهر الماضية من الحرب إلى خسائر فادحة، أقرّت بها وسائل إعلام العدو وقيادته العسكرية في كثير من الأحيان، إلى جانب فشل العدو في تحقيق جزء كبير من أهدافه المعلنة ولا سيّما تلك المتعلّقة باحتلال مدينة غزة وفرض سيطرة كاملة عليها، والقضاء على مقاتلي المقاومة الذين وطّنوا أنفسهم كما تقول التصريحات الصادرة عن قيادتهم على حرب استنزاف طويلة المدى، سيدفع العدو فيها أضعاف ما دفعه خلال أشهر الحرب المنصرمة.
على كلّ حال، ونحن نعيش أجواء عملية الاحتلال العدوانية ضدّ مدينة غزة، ونرى ونسمع عن قرب كلّ ما يتعلّق بها من تفاصيل، يمكننا القول إنّ هذه العملية ستكون فاصلة وحاسمة إلى حدٍّ كبير، ويمكن لها بما ستحمله من تطوّرات ومفاجآت أن تشكّل نهاية لهذه الحرب العدوانية، بل ويمكن أن تكون بداية لسقوط مدوٍّ للمشروع الصهيو-أميركي في كامل المنطقة.
صحيح أنّ الأوضاع في مدينة غزة مأساوية وشديدة الخطورة، وصحيح أنّ العدوان الذي يُشنّ عليها كبير وهائل، إلّا أنّ ما تملكه المقاومة والشعب الفلسطينيان من إيمان بعدالة قضيتهم، وحقّهم في العيش على أرضهم كما كلّ شعوب العالم، سيفشلان هذا المشروع الكبير، وسيسقطان بالضربة القاضية كلّ مخططات الأعداء ومؤامراتهم، وسيخرج الشعب الفلسطيني العزيز، ومقاومته الشريفة والباسلة منتصرين رغم كلّ ما قدّموه من تضحيات.