أوكرانيا في قلب الصراع بين ترامب والعولميين الليبراليين

بوتين يدرك جيداً كلّ ما يجري، ويدرك الصراع وطبيعته وتحالفاته، ويدرك حجم المأزق الذي يحيط بالرئيس ترامب وحاجته للتقارب مع روسيا، فهل سيستغلّ ذلك من أجل إيصال ترامب لمنتصف الطريق؟

0:00
  • يحاول ترامب تمرير عرضه النهائي والادّعاء بأنّ التوصّل لاتفاق بات قريباً أكثر من أيّ وقت مضى.
    يحاول ترامب تمرير عرضه النهائي والادّعاء بأنّ التوصّل لاتفاق بات قريباً أكثر من أيّ وقت مضى.

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية بدأت تتوضّح صورة الصراع في الداخل الأميركي وامتداداتها العالمية، لقد ساهمت النتائج التي حقّقها ترامب وفريقه على صعيد الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس إلى جانب نتائج انتخاب حكّام الولايات في تأمين الإطار التشريعي والمؤسساتي الذي يحتاجه تمرير القرارات والقوانين اللازمة في المواجهة الداخلية والانقلاب على خصومه من الليبراليين العولميين وحلفائهم في الخارج وعلى وجه التحديد في أوروبا.

ولم يكن هذا الصراع وليد اللحظة، فقد بدأ بالظهور منذ العام 2008 كانعكاس للأزمة المالية التي سبّبتها حرب العراق ليتحوّل لاحقاً إلى انقسام عمودي بدأت مفاعليه بالظهور والتدحرج ككرة الثلج، وبات يأخذ أشكالاً شتى وصولاً إلى الحرب الأوكرانية التي عمل لأجلها العولميون الليبراليون بقيادة الرئيس السابق جو بايدن وإدارته، وبتحريض من قبل بريطانيا ذات العداء التاريخي لروسيا.

وليس صحيحاً ما قاله ترامب عندما سئل عن وعوده الانتخابية بإنهاء الحرب الأوكرانية خلال يوم واحد بأنّ ذلك كان على سبيل المجاز، فالواقع يشير إلى أنّ النظام الأوكراني بقيادة زيلينسكي لم يرضخ لتهديدات ترامب، وحتى عندما زار زيلينسكي البيت الأبيض وتعرّض للإهانة من قبل ترامب ونائبه ديفنس أمام الكاميرات بقي على عناده بعدم الرضوخ كليّاً.

لقد بات واضحاً أنّ ترامب يشعر بخيبة أمل وإحباط كبيرين في ظل الدعم والتشجيع الذي يتلقّاه زيلينسكي من تيار الليبراليين العولميين في أوروبا وبريطانيا وحلفائهم الديمقراطيين في الولايات المتحدة، بمقابل تمسّك موسكو بثوابتها وشروطها لوقف إطلاق النار، وهو ما دفع ترامب ونائبه للتهديد بالانسحاب من الوساطة بين الجانبين والتفرّغ لملفات أخرى داخلية وخارجية لا تقلّ أهمية بحسب استراتيجياتهم المعلنة، وعلى رأسها الحرب التجارية مع الصين والتنافس الجيوسياسي معها في المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، وكذلك ملف بناء استراتيجية دفاعية تحت عنوان "القبة الذهبية"، وتوطين الاستثمارات في الداخل الأميركي إلى جانب خطط ترامب لضمّ جزيرة غرين لاند وكندا، وإنجاز ملف المفاوضات مع إيران حول البرنامج النووي، وملفات الشرق الأوسط ومن ضمنها خططه لزيادة مساحة "إسرائيل" والسيطرة على قطاع غزة.

وللمرة الرابعة أرسل ترامب مبعوثه "ستيف ويتكوف" إلى موسكو حاملاً معه ما تمّ وصفه بالعرض النهائي لإنهاء الحرب يشمل هذا العرض اعترافاً أميركياً بشبه جزيرة القرم كجزء من روسيا، واعترافاً غير رسمي بسيطرة روسيا على الأراضي التي حرّرتها مؤخّراً بعد انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا منذ غزو عام 2022.

يحاول ترامب تمرير عرضه النهائي والادّعاء بأنّ التوصّل لاتفاق بات قريباً أكثر من أيّ وقت مضى، ويمارس ضغوطاً على زيلينسكي للقبول بتلك الخطة من خلال إقناعه بأنّ شبه جزيرة القرم باتت جزءاً من روسيا وأنّ الديمقراطيين الذين شجّعوه على الحرب هم من قدّموا القرم لروسيا عندما كان أوباما رئيساً للولايات المتحدة، ليس هذا فقط بل إنّ ترامب قطع الطريق نهائياً على أحلام زيلينسكي في الانضمام للناتو، حذّره من عواقب استمرار الحرب التي قد تنتهي بضياع أوكرانيا بالكامل في ظل عدم امتلاكه لأية أوراق في إشارة لوقف الدعم الأميركي.

وعلى الرغم من تلك الضغوط، والتصريحات الإيجابية الصادرة عن ترامب بعد لقاء مبعوثه ويتكوف مع الروسي فلاديمير بوتين والذي استمر لما يزيد عن ثلاث ساعات،حيث قال ترامب بأنه تمّ الاتفاق على معظم النقاط الرئيسية الخاصة بالتسوية الأوكرانية، وكذلك التصريحات الصادرة عن الكرملين التي أكدت بأنّ اللقاء كان فاعلاً وبنّاءً، فإنّ المؤشرات الصادرة عن كييف والداعمين الأوروبيين لها توحي بأن السلام المنشود ما زال بعيداً بعد أن رفضت أوكرانيا الاقتراح الأميركي بالتنازل عن شبه جزيرة القرم.

فيما قدّمت مع المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا لمبعوث ترامب كيث كيلوج اقتراحاً مضاداً بديلاً عن الانضمام للناتو يتضمّن حصول أوكرانيا على ضمانات أمنية قوية من الولايات المتحدة كتلك التي تمنحها أميركا لـ "إسرائيل" في الوقت الذي ما زال زيلينسكي يتمنّع عن التوقيع على اتفاق المعادن مع واشنطن بعد ثلاثة أسابيع من التأخير.

لعلّ الرجوع إلى تصريحات المندوب الأميركي لدى حلف الناتو "ماثيو ويتكر" الذي عيّنه ترامب، والتي قال فيها بأن "روسيا ربما تكون التهديد الجيوسياسي الأكبر لأوروبا ولكن ليس للولايات المتحدة"، لعله كفيل بإيضاح التجاذبات والخلافات بين واشنطن من جهة وأوروبا من جهة أخرى حول ملف الحرب الأوكرانية والموقف من روسيا، والحقيقة أنّ الأمر لا يتوقّف على التهديد الجيوسياسي فقط، بل يتعدّاه إلى الصراع الذي أعلنه ترامب صراحة ضدّ العولمة والليبرالية الجديدة، وأكّده من خلال الرسوم الجمركية التي فرضها على واردات معظم دول العالم، وهو ما يمكن توصيفه بأنه تجاوز لحدود المنافسة مع العولميين الليبراليين وحلفائهم في الدولة العميقة، والانتقال إلى صراع حقيقي معلن ربما سيتطاير شرره في الداخل والخارج الأميركي، ولأجل ذلك وفي إطار هذا الصراع يسعى ترامب إلى المصالحة والتشبيك مع كلّ القوى المحافظة على الصعيد العالمي، وهو ما يفسّر اهتمامه الشديد بالتقرّب من موسكو والرئيس بوتين ورغبته الملحة في إنهاء الصراع في أوكرانيا الذي يعتبره أحد مفرزات وأدوات خصومه الليبراليين وعلى رأسهم بريطانيا والديمقراطيون في الداخل.

يعلم ترامب أنه إن لم يقطع الطريق على الليبرالية العالمية فسيخسر ويسقط بالضربة القاضية، وهو يستعجل ذلك قبل الانتخابات النصفية في خريف 2026، واليوم بيده فائض قوة يستمدّه من تمركز السلطات بيده، وإن لم يحرز النجاح المطلوب فسيسقط وسيكون سقوطه مدوياً، وعلى هذا الأساس فقط يمكننا فهم ما يجري عالمياً وانعكاساته الإقليمية بما في ذلك ما يخصّ الصراع في أوكرانيا وجهود التسوية فيها.. اليوم تقود بريطانيا تياراً مناهضاً لترامب في داخل الولايات المتحدة وفي أوروبا، ولطالما اشتهر الإنكليز بعدائهم لروسيا.

بريطانيا اليوم تقود التحالف بين الدولة العميقة والليبرالية العالمية، وتسعى لتشكيل حلف يمتد إلى البلطيق وشرق أوروبا. وهي تعلم أنّ هذا الحلف سيكتب له الفشل في حال نجح ترامب في إنجاز التسوية الأوكرانية، فنتائج نجاحه قد تقوده إلى الانسحاب من حلف الناتو وتهميش أوروبا..

يبقى لدينا احتمال مهم، وهو أنّ بوتين يدرك جيداً كلّ ما يجري، ويدرك الصراع وطبيعته وتحالفاته، ويدرك حجم المأزق الذي يحيط بالرئيس ترامب وحاجته للتقارب مع روسيا، فهل سيستغلّ ذلك من أجل إيصال ترامب لمنتصف الطريق في صراعه مع خصومه ثم تركه لمصيره؟ وعند ذلك سيجلس ليتفرّج على نتائج الصراع بين ترامب والعولميين، أم أنه سيستمرّ معه حتى النهاية؟.

لا شكّ أنّ الرئيس بوتين مشهور بدهائه، وحالياً هو ركن رئيسي في الصراع على اعتبار أنّ ترامب يحتاجه في صفّه لمواجهة العولميين، لكن لا ينبغي إغفال الشراكة الاستراتيجية التي تجمع روسيا مع الصين التي تشكّل العدو الأخطر للولايات المتحدة.