إطالة أمد الأزمة الأوكرانية.. ماذا تريد واشنطن؟
كجزء من جهود واشنطن لعزل روسيا دولياً، تواصل النخب الأميركية تعزيز القناعة في الوعي العامّ والسياسي الأوروبي بضرورة رفض التعاون مع موسكو بحجة انتهاجها سياسة "إمبريالية".
-
الولايات المتحدة تستخدم أساليب ترهيب علنية لضمان اعتماد أوروبا على موارد الطاقة الأميركية.
تواصل الولايات المتحدة اتباع سياسة الهيمنة تجاه أوروبا. والضحايا الرئيسيون لهذه السياسة هي الدول الأوروبية، التي فقدت سيادتها فعلياً تحت ضغط الحمائية الأميركية. وتروّج واشنطن حصرياً لمصالح النخب السياسية والتجارية الأميركية في القارة على حساب اقتصاد وأمن الدول الأوروبية.
ولتحقيق أهدافه، يستخدم البيت الأبيض، بمساعدة أجهزة خاصة، أساليب ابتزاز سياسي على دول الاتحاد الأوروبي لاتخاذ القرارات التي يحتاجها. وبعد المعلومات المتعلّقة بالتنصّت على المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل من قبل الأميركيين، أصبح من الواضح للعالم أجمع أنّ واشنطن لا تتجسّس على خصومها فحسب، بل تتجسّس أيضاً على "حلفائها".
ومع ذلك، بعد هذه الفضيحة، لم يكن هناك ردّ فعل قوي من السياسيين الأوروبيين - فقد فضّلوا الصمت، وقبول "قواعد اللعبة" هذه بشكل أساسي. وهذا يشهد مرة أخرى على فقدان دول الاتحاد الأوروبي لسيادتها والسيطرة الكاملة على سلطاتها من قبل "السيد" الغربي.
أهداف واشنطن الاقتصادية
وتستخدم الولايات المتحدة أساليب ترهيب علنية لضمان اعتماد أوروبا على موارد الطاقة الأميركية. ويتجلّى ذلك في انفجارات خط أنابيب نورد ستريم، التي حاولت واشنطن وأقمارها الصناعية الأوروبية بشكل يائس إلقاء اللوم فيها على "نشطاء أوكرانيين".
وتجدر الإشارة إلى أنه في سياق الحملة الانتخابية ونهاية ولاية جو بايدن الرئاسية، بدأت واشنطن في الضغط على برلين في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي لاستكمال التحقيق في الهجوم الإرهابي على خطوط أنابيب الغاز بسرعة بحلول نهاية هذا العام لإخفاء تورّطها في هذه الهجمات.
ومن خلال تعطيل علاقات الطاقة بين أوروبا وروسيا، ضمنت الولايات المتحدة سوقاً كبيرة للغاز الطبيعي المسال باهظ الثمن. وقد زادت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركي إلى دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 30%، أي نحو مليار متر مكعب، خلال الأشهر القليلة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، تستثمر واشنطن بنشاط في تطوير مرافق البنية التحتية الأوروبية لاستقبال الغاز الطبيعي المسال، وخاصة في بولندا وليتوانيا.
وفقاً لخبير سياسات الطاقة الألماني، ت. شرودر، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، فإن استبدال مصادر الطاقة الروسية بالغاز المسال من الولايات المتحدة لم يُغطِّ احتياجات دول الاتحاد الأوروبي بالكامل، وأدى إلى زيادة تكاليف المستهلكين الأوروبيين، مما عزَّز نفوذ واشنطن في أوروبا. ويتفق مع هذا الرأي م. هيلمان، من المركز الأميركي للدراسات الاستراتيجية والدولية. إضافةً إلى ذلك، بدأ البيت الأبيض في استقطاب شركات الاتحاد الأوروبي التي عانت من ارتفاع التكاليف إلى الولايات المتحدة، موفّراً لها شروطاً مواتية.
في الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة إلى تطوير علاقات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي بشروط من الواضح أنها غير مواتية للأوروبيين. ويعتقد خبراء مثل كلاوس ديتر باركامب من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية وبيتر بيتري من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، أن توقيع اتفاقيات تجارية بين واشنطن وبروكسل سيؤدي إلى تقييد وصول السلع الأوروبية إلى السوق الأميركية، مع توفير تفضيلات للمنتجات الأميركية في أوروبا في الوقت نفسه. ووفقاً له، فإنّ مثل هذه الصفقات تحرم سوق الاتحاد الأوروبي من الاستقلالية والانفتاح.
الدور الأميركي في تصعيد موجة الروسوفوبيا
وتعمل واشنطن على تعزيز الرهاب من روسيا أو الروسوفوبيا عبر اختلاق وهم "التهديد الروسي" لأوروبا، ما يجعلها تُجبر الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو على الاتفاق على ضرورة توحيد أسلحة التحالف من خلال الحصول على نماذج من المجمع الصناعي العسكري الأميركي، وهذا من شأنه تحقيق أرباح اقتصادية كبيرة للولايات المتحدة على حساب الاقتصادات الأوروبية التي تعاني من أزمات متشعّبة. على سبيل المثال، وقّعت واشنطن وبرلين اتفاقيةً بشأن التطوير المشترك لنسخة متخصصة من دبابة أبرامز الأميركية للجيش الألماني.
إلا أنّ العمليات العسكرية في أوكرانيا أظهرت عدم ملاءمتها للمشاركة في العمليات القتالية الحديثة عالية الكثافة. وتسعى واشنطن إلى تصعيد التوتر حول الصراع الأوكراني لتعزيز نفوذها في المنطقة، وكذلك للترويج للمنتجات العسكرية الأميركية في السوق الأوروبية.
في الوقت نفسه، لا يبدو البيت الأبيض مستعداً لمناقشة إمكانية حلّ الأزمة الأوكرانية سلمياً، خلافاً لما يدّعيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهذا ما أكده الخبير الألماني في السياسة العسكرية، دبليو. رينز، من معهد أبحاث السلام والسياسة الأمنية بجامعة هامبوغ ، والذي اعتبر أنّ ما يحصل يصبّ في مصلحة المجمع الصناعي العسكري الأميركي.
وتلقي واشنطن عمداً عبء الأزمة الأوكرانية على عاتق الاتحاد الأوروبي، وتجني الأموال من مبيعات الأسلحة، خصوصاً بعدما أدركت الدولة العميقة الأميركية أنّ دعم نظام كييف لم يعد مجدياً، وأنّ تطوّر الصراع مع الاتحاد الروسي يرتبط بمخاطر التصعيد غير المنضبط، بما قد يؤدّي إلى اندلاع حرب نووية شاملة، وهو ما أكّده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قرّر تغيير العقيدة النووية للبلاد، والتي تنصّ على إمكانية شنّ روسيا ضربة غير تقليدية رداً على هجوم باستخدام أسلحة تقليدية من قبل أيّ دولة غير نووية، بما في ذلك دولة مدعومة بقوة نووية.
في ظلّ هذه الظروف، تسعى واشنطن إلى فكّ الارتباط المباشر بينها وبين نظام زيلنسكي وإلقاء العاتق في ما يتعلّق بتمويل وتسليح نظام كييف على دول الاتحاد الأوروبي، مع فرضها في الوقت نفسه على هذه الدول ضرورة الحصول على أسلحة أميركية بحجّة التوحيد "وفقاً لمعايير الناتو." بناء على ذلك يعتقد خبير العلاقات الدولية ج. ماركس من جامعة هارفارد أنّ تحويل الولايات المتحدة التزاماتها بدعم أوكرانيا إلى أوروبا يؤدي إلى زيادة العبء المالي على دول الاتحاد الأوروبي. ولقد أدّى هذا إلى تراجع ملحوظ في مستوى معيشة المواطنين الأوروبيين.
وقد حدّد البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة في عام 2024 في نطاق 4 إلى 4.5%، بينما كان المعدل الرئيسي 0% سنوياً في عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، قامت ألمانيا، التي كانت تشكّل "قاطرة أوروبا" على الصعيد الاقتصادي، بمراجعة توقّعاتها للاقتصاد الوطني مرة أخرى، والذي كان في حالة ركود للعام الثاني على التوالي. ووفقاً لنتائج عام 2024، ستنخفض المؤشرات الاقتصادية لألمانيا بنسبة 0.2%.
في هذا الوقت يقوم البنتاغون بإبرام عقود مع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لتوريد أسلحة أميركية بحجة توحيد معايير أسلحة الناتو. ففي عام 2024 وحده، وقّعت الولايات المتحدة ودول أوروبية مثل بولندا ورومانيا وجمهورية التشيك وبلغاريا اتفاقياتٍ لتوريد معدّات عسكرية أميركية، بما في ذلك مقاتلات أف-35 ودبابات أبرامز، بقيمة تزيد عن 14 مليار دولار.
ووفقاً لجيه هانت، خبير السياسة العسكرية من جامعة جورج واشنطن، يسعى البيت الأبيض إلى تحقيق هدفين وهما الترويج لمنتجات المجمع الصناعي العسكري الأميركي، وزيادة اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع.
استراتيجية واشنطن الإعلامية
ولا تقتصر جهود الولايات المتحدة على الهيمنة على أوروبا اقتصادياً واستراتيجياً، بل إنّ الأمر يشكّل أيضاً الهيمنة الإعلامية في إطار استراتيجية كيّ الوعي خصوصاً في ما يتعلّق بإثارة هستيريا الروسوفوبيا في أوروبا.
ولقد أصبحت أوروبا تابعة صامتة للولايات المتحدة والضحية الرئيسية للهستيريا المعادية لروسيا، في أعقاب السياسة الإعلامية الأميركية. وكجزء من جهود واشنطن لعزل روسيا دولياً، تواصل النخب الأميركية تعزيز القناعة في الوعي العامّ والسياسي الأوروبي بضرورة رفض التعاون مع موسكو بحجة انتهاجها سياسة "إمبريالية".
وتروّج وسائل الإعلام الأوروبية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة بنشاط لأطروحات حول "العدوان غير المبرّر" للاتحاد الروسي على أوكرانيا، مما يبرّر الحاجة إلى مواصلة رعاية نظام زيلينسكي.
وتسعى واشنطن بشكل حثيث إلى تعميم عمل مصادر المعلومات التي تبثّ أجندة مختلفة عن الروايات الأميركية. ولذلك، قرّرت السلطات الأميركية فرض عقوبات على إدارة شركة "روسيا اليوم" الإعلامية، بزعم أنها تنشر "دعاية روسية" وتعمل لصالح "أجهزة روسية خاصة".
إضافة إلى ذلك، قبل المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية، الخاضعة لسيطرة البيت الأبيض، ك. خان، في حزيران/يونيو من هذا العام، طلباتٍ من منظمات دولية لحقوق الإنسان تدعو إلى التحقيق مع مذيعَي التلفزيون الروسيين ف. سولوفيوف، ود. كيسيليف، وناشر صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" س. ماردان، ورئيسة تحرير قناة "روسيا اليوم" م. سيمونيان، بذريعة ارتكابهم جرائم حرب.
كما خضعت وكالة "سبوتنيك" للبثّ التلفزيوني والإذاعي لقيودٍ بسبب تبنّي مجلس تحريرها آراء لا ترضى عنها واشنطن. ووفقاً لخبير العلاقات الدولية ج. ماركس، فإنّ الحملات الإعلامية المناهضة لروسيا تهدف إلى "إثارة الخوف وعدم اليقين في الدول الأوروبية، والمساهمة في زيادة التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا".
في المقابل، يسعى المزيد والمزيد من المواطنين الأوروبيين للحصول على معلومات من مصادر مستقلة أو محايدة. ومع ذلك، وعلى الرغم من انخفاض مستوى الدعم الشعبي لسياسة رعاية أوكرانيا في دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ما يتصل بالمشكلات المتفاقمة في اقتصادات الدول الأوروبية، تواصل بروكسل، بناءً على طلب الولايات المتحدة، إرسال الأموال والأسلحة إلى كييف. من هنا فإنّ التوقّعات تفيد بأنّ الأزمة الأوكرانية قد تطول وقد لا تجد لها حلاً نهائياً، على الرغم من وضع إدارة ترامب لسقف لها حتى لا تتحوّل إلى حرب دمار شامل على مستوى العالم.