إيران بعد الحرب: التهديد قائم و"إسرائيل" بلا حل نهائي؟
أثبتت إيران أنها ليست فقط قادرة على الصمود، بل على إحداث ضرر حقيقي في منظومة الأمن الإقليمي. أما النتيجة الأوضح فهي أنّ تفكيك النظام الإيراني ليس هدفاً يمكن بلوغه في الأمد المنظور.
-
هل تستطيع إيران التعافي بسرعة؟
نفّذت "إسرائيل"، في إطار الحرب على إيران، سلسلة ضربات مركّزة استهدفت البنية النووية والعسكرية، أضعفت خلالها قدرات التخصيب، وقتلت شخصيات قيادية، وألحقت ضرراً كبيراً بمنظومة الصواريخ. كما حقّقت تفوّقاً جوياً واستخباراتياً نادراً داخل العمق الإيراني.
لكن هل تكفي هذه النجاحات لتغيير قواعد اللعبة؟ وهل تستطيع إيران التعافي بسرعة وإعادة بناء ما تضرّر؟ وهل ما تحقّق إسرائيلياً هو إنجاز دائم، أم مجرّد تقدّم مؤقت في صراع طويل المدى؟
رغم الطابع الهجومي واسع النطاق، لم تتمكّن "إسرائيل" من تحقيق عدد من الأهداف الجوهرية التي شكّلت منطق هذه الحرب. فمحاولة شلّ منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية أفضت إلى اضطراب مؤقت، لكنّ طهران ملأت الفراغ بسرعة بقادة ذوي خبرة، ما قلّل من أثر ضربة "قطع الرأس".
أما البرنامج النووي، فرغم الضربات على منشآته وقدراته البشرية، فإنّ المعرفة والبنية الأساسية ظلت قابلة للاستعادة، وهو ما أكّده اللواء تامير هيمان، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات، بأنّ إيران يمكنها العودة إلى وضع "عتبة الدولة النووية" خلال عام إلى عامين إذا لم تُعَق خارجياً.
الرهان على زعزعة النظام من الداخل بقي بلا نتائج ملموسة؛ بل على العكس، أظهرت رمزية المرشد الأعلى السيد علي خامنئي صدمة لدى دوائر التقدير الإسرائيلية والأميركية، بعدما فشلت العمليات الرمزية كسقوط أسوار سجن إيفين أو استهداف "ثأر الله" في إشعال احتجاجات جماهيرية. وبقي النظام متماسكاً، في بنية سلطته، وسرديّته، وتحكّمه بالأمن الداخلي.
بذلك، ورغم نجاح "إسرائيل" في تقويض بعض القدرات، فإنها لم تُحدث تحوّلاً استراتيجياً طويل الأمد في طبيعة التهديد الإيراني لها أو في بنية النظام الحاكم.
اليوم، يتحدّث القادة الإسرائيليون عن أنّ هذه الحرب لن تكون سوى جولة أولى ضمن سلسلة من الجولات المقبلة، هدفها منع إيران من إعادة بناء برنامجها النووي والصاروخي، عبر استراتيجية الاستهداف الدوري المتكرّر. لكن هذا المسار، وإن بدا مُرضياً من منظور أمني، إلا أنه محفوف بجملة تحدّيات:
أولها، تكلفته الباهظة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إذ إنّ كلّ جولة تصعيد ستُقابل بردّ من إيران أو أحد حلفائها من محور المقاومة، ما يضع الجبهة المدنية تحت تهديد مستمر، خصوصاً بعد أن اختبرت "إسرائيل" التأثير التدميري للصواريخ الإيرانية.
ثانياً، فقدان عنصر المفاجأة الذي ميّز الجولة الأولى؛ فمن غير المرجّح أن تتيح طهران لـ "إسرائيل" إعادة الكرّة بالسيناريو ذاته، خصوصاً في ظلّ تكثيف جهودها الاستخباراتية. ويكفي التذكير بأنّ "الشاباك" يُعلن بشكل شبه يومي عن اعتقال إسرائيليين تعاونوا مع الاستخبارات الإيرانية، ما يشير إلى عدم اكتفاء إيران بالجهود الأمنية الوقائية بل لديها نيّات أمنية هجومية لاختراق "إسرائيل" من الداخل.
ثالثاً، القدرة الإيرانية على التكيّف والتعلّم؛ فالمواجهات المتكرّرة قد تدفع طهران إلى تطوير وسائل ردع غير متماثلة، وتحسين دفاعاتها، وتسريع تعافي محور المقاومة وخاصة حزب الله في لبنان.
ورابعاً، الموقف الدولي؛ فحتى لو حصلت "إسرائيل" على ضوء أخضر أميركي ضمني في الجولة الأولى، إلا أنه من غير المضمون استمراره في ظلّ تعقيدات المشهد الدولي وتجنّب واشنطن الانزلاق إلى حرب مفتوحة.
ضمن هذا السياق، تبرز عدة مسارات بديلة أو مكمّلة قد يفكّر بها الإسرائيلي للاحتفاظ بزمام المبادرة.
من بينها، المسار الاستخباراتي طويل النفس، القائم على استنزاف النظام من الداخل من دون الوصول إلى الحرب الشاملة، وكذلك المسار السياسي والدبلوماسي الهادف لبناء إجماع دولي جديد يمنح شرعية لأيّ تدخّل وقائي مستقبلي.
كما قد تحاول "إسرائيل" دعم حراك داخلي غير عنيف في إيران سياسياً أو إعلامياً أو تقنياً، من دون الانزلاق نحو دعم مباشر يُفقد تلك الحركات شرعيّتها.
غير أنّ هذا النمط الرمادي، ورغم فعّاليته النظرية، ليس بجديد. فقد استخدمته "إسرائيل" والولايات المتحدة منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، من دون أن يحقّق اختراقاً استراتيجياً حتى اليوم. كما أنّ عنصر الوقت في هذا السيناريو يلعب لصالح إيران، إذ يُتيح لها تعافياً هادئاً في قدراتها النووية والعسكرية والدفاعية.
أما على مستوى واشنطن، فتبدو المقاربة التفاوضية خياراً مفضّلاً حتى في ظلّ إدارة ترامب ذات الطابع التصادمي. فطريقة إنهاء الحرب، وسلوك البيت الأبيض، يُظهران أنّ استخدام القوة لم يكن لإنهاء النظام الإيراني، بل لإعادة تشكيل شروط التفاوض. واشنطن لا تسعى إلى إسقاط النظام أو تدمير مشروعه بالكامل، بل إلى التوصّل إلى اتفاق نووي أكثر صرامة من سابقه.
وهنا، تقف "إسرائيل" أمام مأزق استراتيجي. فهي من جهة تحاول التأثير على صياغة القرار الأميركي التفاوضي، ومن جهة أخرى تدرك أنّ التفاوض يمنح إيران مساحة زمنية ثمينة للتعافي والتكيّف مع الضربة، وإعادة تموضعها الأمني والسياسي، واستيعاب شكل الحرب الإسرائيلية. ومع غياب التصعيد أو الحسم، قد تتحوّل الضربة إلى درس استراتيجي لإيران أكثر من كونها رادعاً دائماً، وتوفّر لها الدافع للتقدّم بلا تردّد نحو تسريع مشاريعها النووية والعسكرية، ونيل الشرعية الداخلية والخارجية لذلك على ضوء العدوان الإسرائيلي عليها.
في النهاية، ورغم أنّ تجربة الحرب التي امتدت 12 يوماً أثبتت حاجة إيران لمراجعة ذاتها، وضرورة التقييم، فإنها أيضاً كشفت هشاشة الرهان الإسرائيلي على الحسم وهزيمة إيران. فرغم الضربة المباغتة، جاء الردّ الإيراني منظّماً ومؤثّراً، طال الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وهدّد القواعد الأميركية في الخليج، وأمن الطاقة العالمية وخطوط الملاحة.
أثبتت إيران أنها ليست فقط قادرة على الصمود، بل على إحداث ضرر حقيقي في منظومة الأمن الإقليمي. أما النتيجة الأوضح فهي أن تفكيك النظام الإيراني ليس هدفاً يمكن بلوغه في الأمد المنظور، لا بالحرب ولا بالحصار.
وهكذا، بقيت "إسرائيل" مع إنجاز تكتيكي مؤقت... في مقابل تهديد استراتيجي دائم اسمه الجمهورية الإسلامية في إيران.