إيران تركيا و"إسرائيل" في شرق أوسط متغيّر

ترى تركيا أنّ ترامب يريد تشكيل خريطة في المنطقة  تنسجم مع الأهداف الإسرائيلية. وهي ترى أنها ستكون أمام مرحلة فوضى جديدة في المنطقة وفي العالم مع المخاطر الناشئة من الفراغ الحاصل في سوريا.

  • "إسرائيل" والشرق الأوسط الجديد وسياسة ترامب.

في السياسة العالمية المعقّدة وغير المتوقّعة بات العالم يدخل مرحلة فوضوية بسرعة كبيرة إذ أصبح القانون الدولي والمؤسسات والأعراف الدولية مختلة. كتل المحور الغربي والشرقي والأطلسي تكاد تفقد صلابتها. التحوّل واضح في علاقات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا مع بعضها البعض وبقية العالم. إنه المأزق العميق لبنية النظام العالمي الرأسمالي، الذي وصل إلى الانسداد نظرياً وعملياً.. مما يتطلّب قيادة للنظام العالمي الجديد .فهل الأمر يتطلّب استخدام القوة الاقتصادية/العسكرية؟ 

تعمل معظم دول الشرق الأوسط على تثبيت أوضاعها السياسية والتفتيس عن الدور أو الحماية محاولة حلّ مشكلاتها الداخلية، سياسات ترامب غير الواضحة في معالمها وثوابتها التي يأتي على راسها أميركا أولاً: محمّلة بالنفور من الأدوات التقليدية للقوة الأميركية، هذا التوجّه ينطوي على التشكيك في سياسة واشنطن والمشاركة العالمية والدفاع عن النظام العالمي الليبرالي.

فلا حماية من دون دفع التكاليف، أما التهديد بالانسحاب من الناتو فخلط أوراق أوروبا وتركيا. المساعدات أو الدعم  من دون عائد أصبحت من الماضي ونتيجة لذلك يمكن إعطاء قروض لكن ليس مساعدات، ترامب يعارض باستمرار سياسة المساعدات الخارجية، ويدعو إلى استبدال المنح بالقروض. وباتباع سياسة المواجهة الاقتصادية لا العسكرية: لحماية الدولار والاقتصاد الأميركي ـ لكن تبقى "إسرائيل" واحدة من ثوابت ترامب في المنطقة.

"إسرائيل" والشرق الأوسط الجديد وسياسة ترامب

في خطابه أمام الكونغرس الأميركي، صرّح نتنياهو بوضوح أن "السامرة" و "يهودا" – وهما الاسمان العبريان للضفة الغربية وغزة  – هما جزء لا يتجزأ من "أرض إسرائيل". يعكس هذا التصريح استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد، تسعى لدمج هذه الأراضي ضمن حدود الدولة، حيث تكرّس "إسرائيل" من خلال هذه السياسة رؤية مستقبلية تتضمّن الضمّ التدريجي للأراضي الفلسطينية، ما يمهّد الطريق لتغيير جذري في الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.

رؤية نتنياهو تتجاوز مجرّد ضمّ الأراضي الفلسطينية، فهي جزء من خطة أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية التي تسعى إلى بناء علاقات جديدة مع دول عربية في إطار تحالفات أمنية واقتصادية، وتعزّز موقعها في المنطقة لتضمن تفوّقها العسكري.

قبل تولّيه منصبه أعرب ترامب عن رغبته في رؤية الحرب في غزة تنتهي، وعرض منذ فترة  خطة تهجير أهالي غزة من أجل إعمارها لتصبح ريفييرا الشرق الأوسط حيث يمكن لأهالي غزة الذهاب إلى مصر أو الأردن، فهو يرى الناحية النفعية التجارية وفي الوقت عينه يحقّق مشروع نتنياهو. لكن ألا يمكن لإرادة ترامب أن تتقلص إذا قام السعوديون بدعم واسع لإعادة إعمار غزة، وأصرت مصر على إصلاحات داخل السلطة الفلسطينية، مقابل توقيع اتفاقيات دفاعية بين "إسرائيل" والسعودية والولايات المتحدة.

الحكومة الإسرائيلية تسعى لتقويض مشروع العرب في الإعمار وعلى الرغم من أنهم حلفاء أميركا لا يبدو أن ترامب ينصت إليهم. هناك أهمية لتمسّك السعودية بموقفها الرافض للتطبيع من دون الحصول على ضمانات واضحة تضمن إقامة دولة فلسطينية، وفي حال مضت إدارة ترامب في تنفيذ خطتها، الخطر لن يقتصر على غزة وحدها، بل سيمتدّ ليطال الضفة الغربية، عبر تنفيذ عمليات ترحيل مماثلة، بما يخدم أجندة اليمين الإسرائيلي.

إيران أو عقدة "إسرائيل" في الشرق الأوسط

يرفع ترامب حدة خطابه بوجه إيران، ويعيد العقوبات القصوى، لكنه يتردّد في العمل عسكرياً ضد القدرات النووية الإيرانية، خوفاً من تورّط الولايات المتحدة في حرب جديدة. "إسرائيل" ليست قوية فقد أضعفتها الحروب في غزة ولبنان، قوتها العسكرية مستمدة من أميركا وهي لا يمكنها القيام بحرب لوحدها. وحتى الدعم الذي يعبّر عنه حالياً للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد طهران قد لا يستمر، هناك بالضرورة خياران للتعامل مع طهران: العقوبات، التي لها فعالية محدودة في وقف البرنامج النووي، والمفاوضات التي لا بدّ منها للولايات المتحدة الأميركية، وهذا سيجعل من الصعب على القادة الإسرائيليين الاعتراض علناً على هذه المفاوضات، كما فعلوا في محاولات منع سنّ الاتفاق النووي الجديد الإيراني. بيد أن ايران غير متحمّسة لاتفاق جديد لعدة أسباب؛ منها أن الولايات المتحدة غير موثوقة ولا تلتزم بالاتفاقات بل هي أعادت العقوبات، وإيران تعرف ماذا يدور في خلد ترامب ولماذا يريد عقد اتفاق معها، وترى أن الاتفاق لن يفيدها ويمكن أن يخلق لها مشكلات في الداخل ولن تستفيد من رفع العقوبات.

هي وصلت إلى مرحلة اللاعودة فحجم إنتاج النفط قبل عام 2017 كان 3.8 ملايين برميل وبعد العقوبات أصبح 2 مليون برميل، اليوم هي تنتج 3.4 ملايين برميل، وهي استطاعت الوصول إلى هذا الرقم رغم العقوبات بفضل التجارة مع الصين والحرب الأوكرانية والتحايل على العقوبات، وإذا تم الاتفاق ورفعت العقوبات سيزيد إنتاجها لكن ستحتاج إلى الاستثمارات من أجل إصلاح وتطوير وتحديث حقول النفط التي أصبحت مهترئة وتحتاج إلى تكنولوجيا متطورة، أما المستثمرون فهم سيرفضون المجيء إلى إيران، لأنه ليست هناك ضمانات بعدم تراجع الولايات المتحدة عن الاتفاق وإيران تريد ضمانات طويلة الأجل بعدم الانسحاب.

إيران واحدة من أغنى الدول بالغاز المسال، والتصدير سيؤدي إلى انخفاض أسعار النفط وهذا ما تريده واشنطن، ويمكنها الوصول إلى عتبة القوة العظمى في المجال النفطي وهذا ما لن تقبله "إسرائيل" أو ترامب. لذلك هناك تناقض بين ما يريده ترامب والحدود التي سيقف عندها أو الغاية من عقد الاتفاق، تكمن محاولته في تجنّب حرب بين إيران و"إسرائيل" حيث سيضطر لمساندة "تل أبيب" وهكذا سيخسر تعهّده بعدم خوض حروب وهو  لا يريد تكبّد مصاريف أيّ حرب، وثالثاً يريد خفض أسعار النفط في الداخل الأميركي ومن الممكن أن يؤثر تصدير النفط الإيراني على الاقتصاد الروسي واقتصادات أوبيك إذا تم خفض أسعاره. وأخيراً الخوف من وصول إيران لامتلاك القنبلة النووية.

تركيا في الشرق الأوسط وتبحث عن دور في أوروبا 

ترى تركيا أن ترامب يريد تشكيل خريطة في المنطقة تنسجم مع الأهداف الإسرائيلية. وهي ترى أنها ستكون أمام مرحلة فوضى جديدة في المنطقة وفي العالم مع المخاطر الناشئة من الفراغ الحاصل في سوريا مع وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة، وأمام مخاطر الدعم الأميركي - الإسرائيلي للجغرافيا السياسية الكردية،  حاولت تركيا إخراج المسألة الكردية من التجاذبات حيث توافقت مع الأب الروحي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان على الدعوة لإلقاء السلاح والدخول في العملية السياسية في تركيا وسوريا وجبال قنديل، فهي لا تريد أن يتم اللعب على وحدتها وأمنها وعلى الخلافات والتناقضات الحاصلة بسبب القضية الكردية من جهة ودعمها للحكم الجديد في سوريا من جهة أخرى، سيما وأن علاقتها مع "إسرائيل" في أسوأ أحوالها بسبب موقفها من الحرب في غزة ولم توفّق بالقيام بدور الوسيط  في غزة كالدور الذي أدّته في بداية حرب أوكرانيا. والذي تعرّض لنكسة وصولاً إلى اختيار السعودية وليس تركيا مكاناً للمباحثات الأميركية - الروسية، ما أثار استياءها ضمنياً، بحيث جرى تهميش دور كانت تتحمّس له.

إلا أنّ الصدع في التحالف الأطلسي الناجم عن محاولة ترامب إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وطرد زيلينسكي بما يمثّل من تحالف أوروبي من البيت الأبيض، أظهر رغبة الولايات المتحدة الأميركية في التخلّص من الأعباء المالية والسياسية للمؤسسات الدولية التي فقدت وظائفها التأسيسية، وخاصة حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة.

مما جعل تركيا تدخل على خط الاضطراب بين أميركا وأوروبا محاولة استغلال هذا الصراع  حيث رأت أنه على أوروبا ألا تخضع لأميركا التي ستتركها آجلاً أم عاجلاً وعليها إنشاء مركز قوة, يكون للقوات التركية فيها دور كونها تحتفظ بجيش قوي، تحاول تركيا إيجاد مركز قوة في حال فرط عقد الناتو وهي تريد أن تنقذ نفسها بالعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي إذا ما قرّر استجماع قوته والحفاظ على وحدته. تركيا لديها صراعات مع اليونان حول الجزر وحول آبار الغاز ومشكلات حول جزيرة قبرص وهي تطمح أن تكون مركزاً للطاقة، وهي جزء من الصراعات في القوقاز وكراباخ وفي ليبيا وأفريقيا يغطي جميع هذه الصراعات وجودها في حلف الناتو فماذا إذا انهار هذا الحلف؟ ستجد نفسها وحيدة إزاء التطورات الحاصلة.

يعرض ترامب خريطة جديدة للعالم، وعلى تركيا أن تبحث عن موقعها في هذه الخريطة، وأن تعيد تشكيل دبلوماسيتها على هذا الأساس، شرط أن تتخلّى عن سياسات التوتير الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهل تستطيع؟