الأمن القومي الإسرائيلي بعد عامين من الحرب

يتعامل العالم مع استمرار الاحتلال باعتباره السبب الجوهري لاستمرار الحروب في المنطقة، فيما يعود الفلسطيني وحلّ قضيته إلى الساحة الدولية باعتباره مفتاح الاستقرار الإقليمي.

0:00
  • "إسرائيل" كقوة عسكرية قادرة على تحقيق إنجازات ميدانية باهرة ومؤلمة لخصومها.

بعد مرور عامين على السابع من أكتوبر، وعلى حجم الدمار والقتل الذي مارسته "إسرائيل" في قطاع غزة، يبرز سؤال جوهري:

هل تحسّن "الأمن القومي" الإسرائيلي إلى الحدّ الذي لم تعرفه "إسرائيل" من قبل؟

الإجابة تبدو أبعد ما تكون عن شعارات "النصر المطلق " التي يرفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، فـ "إسرائيل" تقف اليوم أمام مشهد أكثر تعقيداً مما كانت عليه قبل الحرب. فعلى مستوى التهديدات الخارجية، ولنبدأ في الجبهة الإيرانية: 

تعيش "إسرائيل" اليوم مواجهة مباشرة مفتوحة مع إيران، لم تعد باردة كما في السابق. الحرب بين الجانبين تجاوزت حدود الرسائل المتبادلة والضربات السرّية، وأصبحت حرباً حقيقية لم تُنهها اتفاقات وقف إطلاق النار. 

الأهمّ أنّ إيران باتت أكثر جرأة في استخدام العمق الإسرائيلي كساحة ردّ، بعدما سقط حاجز الردع التقليدي. أي أنّ هامش المناورة الإسرائيلي أصبح أضيق من أيّ وقت مضى، والجبهة الإيرانية أكثر اشتعالاً ومباشرة مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر.

حزب الله

رغم الضربات القوية التي تلقّاها حزب الله، وعلى رأسها اغتيال السيد حسن نصر الله رحمه الله، فإنّ الهدف الإسرائيلي الأساسي — نزع سلاح الحزب وإنهاؤه سياسياً وعسكرياً — لم يتحقّق.

بل خرج الحزب من التجربة أكثر صلابة وتنظيماً، وأكثر مرونة في التعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية.

قد تكون المواجهة المقبلة مؤجّلة، لكنّ التجربة الإسرائيلية منذ حرب 2006 تُظهر أنّ "إسرائيل" نفسها احتاجت سنوات لترميم قدراتها بعد هزيمتها في لبنان، ما يعني أنّ حزب الله بدوره يتطوّر ويستعدّ للجولة المقبلة على نحو أكثر حذراً وفاعلية.

بالخلاصة "إسرائيل" استطاعت اغتيال القائد، ولكن بقيت الفكرة والنهج.

الجبهة الفلسطينية

صحيح أنّ "إسرائيل" دمّرت غزة إلى حدّ غير مسبوق، لكنها فشلت في القضاء على المقاومة أو كسر إرادتها.

اليوم، تفاوض"إسرائيل" حركة حماس عبر الوسطاء لوقف الحرب، وهو اعتراف عملي بأنّ القوة العسكرية وحدها لم تحقّق الحسم.

ورغم أنّ خطة ترامب تدعو إلى نزع سلاح المقاومة، إلّا أنّ ذلك لا يعني نهايتها، بل يعكس تحوّلاً في وعيها السياسي نحو صياغة شكل جديد للمقاومة يتناسب مع احتياجات الشعب في غزة، وأنّ غزة ليست ساحة المواجهة الوحيدة للفلسطيني.

لكن الأهمّ من ذلك أنّ القضية الفلسطينية عادت إلى الواجهة الدولية بزخم غير مسبوق، بعدما كانت "إسرائيل" تراهن على طيّها نهائياً.

اليوم، يتعامل العالم مع استمرار الاحتلال باعتباره السبب الجوهري لاستمرار الحروب في المنطقة، فيما يعود الفلسطيني وحلّ قضيته إلى الساحة الدولية باعتباره مفتاح الاستقرار الإقليمي.

أما على مستوى الجبهة الداخلية الإسرائيلية

اعتقد البعض أنّ صدمة السابع من أكتوبر ستعيد اللحمة الداخلية للمجتمع الإسرائيلي، بعد انقسامه العميق حول "الإصلاح القضائي"، لكن ما حدث كان العكس تماماً.

فخلال العامين الماضيين تعمّق التآكل في البنية الاجتماعية والسياسية، وبرزت أزمات جوهرية مثل قضية تجنيد الحريديم، التي كشفت الخلل في مفهوم "المساواة في تحمّل العبء القومي".

بحسب معهد الأمن القومي الإسرائيلي، قُتل منذ اندلاع الحرب 1976 إسرائيلياً وأصيب 30,026 آخرون، من بينهم 20 ألف جندي، 70% منهم يعانون إعاقات جسدية أو نفسية دائمة.

هذه الأرقام فجّرت سجالات داخلية حادة بين فئات المجتمع المشاركة في "الجيش" والاقتصاد وبين الحريديم، ممّا زاد من شراسة الانقسام الديني العلماني داخل "إسرائيل".

الأمن القومي ليس مجرّد جيش قوي، بل اقتصاد متين. الحرب المستمرة استنزفت الاقتصاد الإسرائيلي بشكل غير مسبوق. ارتفعت تكلفة الحرب إلى مئات المليارات، وتضرّرت قطاعات حيوية كالتكنولوجيا الفائقة والسياحة، وتراجع التصنيف الائتماني لـ "إسرائيل". هذا النزيف الاقتصادي يمثّل قيداً استراتيجياً على قدرة "إسرائيل" على خوض حروب طويلة الأمد في المستقبل.

لكنّ الخطر الأكبر هو انهيار الثقة بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي، حيث تحوّلت حرب "تحمّل المسؤولية" عن إخفاقات 7 أكتوبر من الغرف المغلقة إلى صفحات الجرائد وقاعات المحاكم، وبات رئيس الوزراء في صراع مفتوح مع جنرالاته حول إدارة الحرب ورؤية "اليوم التالي". هذا الصدع في قمة هرم صنع القرار لا يضعف الجبهة الداخلية فحسب، بل يشلّ قدرة الدولة على رسم استراتيجية متماسكة.

بكلمات أخرى، تفكّك الجبهة الداخلية الإسرائيلية ازداد عمقاً واتساعاً مع استمرار الضغوط الخارجية، ما جعل هشاشة الداخل خطراً استراتيجياً لا يقلّ عن تهديدات الخارج.

العلاقة مع واشنطن

تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية حجر الزاوية في الأمن القومي الإسرائيلي، لكنها تمرّ باختبار قاسٍ.

صحيح أنّ دونالد ترامب يُعدّ من أكثر الرؤساء الأميركيّين دعماً لـ "إسرائيل"، تماماً كما كان جو بايدن، لكن حتى ترامب بات مقتنعاً بأنّ تدخّله اليوم يجب أن يهدف إلى "إنقاذ إسرائيل من نفسها" وكسر عزلتها السياسية المتزايدة.

من هنا جاءت مبادرته لإنهاء الحرب في غزة، والتي تسعى لإعادة تأهيل "إسرائيل" سياسياً على الساحة الدولية، بعدما تحوّلت من ضحية إلى عبء أخلاقي على حلفائها.

غير أنّ نجاح الخطة يبقى موضع شكّ، في ظلّ الانقسامات العميقة داخل "إسرائيل" والتغيّرات الجوهرية في المجتمع الأميركي نفسه، حيث تتراجع سردية "المظلومية الإسرائيلية" أمام جيل أميركي شاب أكثر وعياً بالواقع الفلسطيني، وأقلّ تعاطفاً مع الرواية الإسرائيلية، حتى داخل الحزب الجمهوري.

بعد عامين من الحرب على سبع جبهات، تبدو "إسرائيل" كقوة عسكرية قادرة على تحقيق إنجازات ميدانية باهرة ومؤلمة لخصومها. لكنّ هذه الانتصارات تبقى تكتيكية، قصيرة الأجل، وعالية التكلفة. في المقابل، الأزمات الاستراتيجية الكبرى — مواجهة مفتوحة مع إيران، ردع متآكل أمام حزب الله، قضية فلسطينية حيّة دولياً، مجتمع ممزّق، اقتصاد منهك، وعلاقة متوترة مع أقرب حليف — كلّها أزمات مفتوحة ومستعصية على الحلّ.

"إسرائيل" اليوم، ربما تكون أقوى من أيّ وقت مضى على المستوى الميداني، لكنها بلا شك أضعف وأكثر عزلة وهشاشة على المستوى الاستراتيجي. وهي تحارب على كلّ الجبهات، من دون أن تنتصر فعلياً في أيّ منها.