الاتحاد الأوروبي... براغماتية سيادية مفقودة وطوباوية قاتلة
سارعت رئيسة المفوضية الأوروبية للتوقيع على اتفاق عدّته ودونالد ترامب جيداً لكلا الطرفين، في حين بدا واضحاً أن بعض الدول، بالإضافة إلى التجمعات الصناعية الأوروبية، لم تبدِ حماساً لمندرجات هذا الاتفاق.
-
نشأة الاتحاد الأوروبي لم تكن نتيجة البحث عن ترف أو رفاهية.
لم يجرؤ الاتحاد الأوروبي على اختبار مدى جدية دونالد ترامب في تطبيق قراره برفع الرسوم الجمركية إلى 30% في الأول من آب الحالي إذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق يضمن لدونالد ترامب تطبيق رؤيته لإعادة التوازن إلى العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، إذ سارعت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إلى التوقيع على اتفاق عدّته ودونالد ترامب جيداً لكلا الطرفين، في حين بدا واضحاً أن بعض الدول كفرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى التجمعات الصناعية الأوروبية، لم تبدِ حماساً لمندرجات هذا الاتفاق، إذ رأت أنه سيلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد الأوروبي على المديين القريب والمتوسط، وبالتالي سيؤثر بشكل حاسم على المشروع الأوروبي على المدى البعيد.
في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق قد تم تحت الضغط المباشر للرئيس الأميركي. وبعيداً عن أنه قد يظهر إمكانية تحقيق توازن معيّن بالحدّ الأدنى بين الطرفين في ما يخصّ الرسوم الجمركية، فإن بند إلزام أوروبا بشراء الغاز الطبيعي الأميركي بقيمة 750 مليار دولار مقسمة على 3 سنوات، بالإضافة إلى تعهد الاتحاد الأوروبي بشراء عتاد عسكري أميركي، فضلاً عن استثمار الشركات الأوروبية 600 مليار دولار في الولايات المتحدة خلال فترة الولاية الحالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، يطرح سؤالاً إشكالياً حول مدى صلابة الاتحاد الأوروبي في مواجهة التحديات والأزمات الخارجية، ومدى تأثير هذه الأزمات على تكامله، خصوصاً أن الواقع الأوروبي يعاني أصلاً نتيجة فقدانه التوازن الاقتصادي والمالي بين دوله، ونتيجة عدم قدرته على بلورة توجّه سياسي ودفاعي موحّد في ظل ارتباط أكثر دوله بحلف "الناتو" وبالمظلة الأمنية الأميركية.
يمكن اعتبار الموقفين الفرنسي والألماني بمنزلة بوصلة يمكن من خلالها تقدير مدى تقبّل هذا الاتفاق شعبياً في أوروبا. فإذا كان من الطبيعي أن ينتقد رئيس الوزراء فرنسا، صاحبة التوجّه الساعي دائماً للحفاظ على سيادة أوروبا، الاتفاق ويصفه بأنه خضوع أوروبي للولايات المتحدة الأميركية، فإن موقف المستشار الألماني الذي رأى أن الاتفاق قد جنّب أوروبا حرباً تجارية، إلا أن الاقتصاد الألماني سيعاني من أضرار كبيرة، يعدّ أكثر تعبيراً عن حالة الاستياء من هذا الاتفاق. غير أن هذه السلبية في المواقف لم تكبح توجّه مؤسسات الاتحاد إلى تسريع الإجراءات اللازمة لتنفيذ الاتفاق بما يوحي بأن الواقع الأوروبي الحالي لا يدلل على جدية التوجّه نحو تحويل الاتحاد إلى قوة مستقلة سيدة.
بالطبع، لا يمكن اعتبار الدول الأوروبية فاقدة لأهلية الالتفاف على هذا الاتفاق، إذ إنها تملك مروحة واسعة من العلاقات مع العديد من الدول الأخرى القادرة على تأمين بدائل للبضائع الأميركية. وبالتالي، فإن الأمر يرتبط بالقدرة على اتخاذ قرار بهذا الشأن، بالإضافة إلى مواءمة هذا القرار مع المصلحة الأوروبية الخالصة، وعدم الخضوع لمتطلبات أمنية وإستراتيجية يفرضها الآخرون، كما هي الحال مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
تجب الإشارة هنا إلى أن الحق السيادي للولايات المتحدة في فرض ما تراه مناسباً على الدول الأخرى، الحليفة وغير الحليفة، يقابله حتماً حق سيادي لهذه الدول في تقدير ما يناسبها. وبالتالي، يُفترض برد الفعل الأوروبي على انطلاق الرئيس الأميركي من حقيقة اعتباره أن الاتحاد الأوروبي قد أُسّس من أجل ابتزاز الولايات المتحدة وتكريسه لروح هذا الاتفاق على افتراض البحث في كيفية تغيير موازين العلاقة بين الطرفين بحيث تصبح مناسبة للمصلحة الأميركية الخالصة، أن يكون بالمستوى نفسه، أي البحث في ما يناسب مصالح الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى.
في هذا الإطار، يجب القول إن نشأة الاتحاد الأوروبي لم تكن نتيجة البحث عن ترف أو رفاهية، وإنما يمكن اعتباره نتيجة منطقية للبحث عن القوة والاستقرار والاستقلالية في مواجهة الأزمات الدولية.
فالتكامل السياسي والاقتصادي الذي مهدت له معاهدة ماستريخت لم يستهدف البحث في تعزيز السلام والأمن والرفاهية وغير ذلك من الأهداف المثالية فقط، وإنما كان يستهدف بالدرجة الأولى تعزيز مكانة الاتحاد على الساحة الدولية، وتعزيز موقعه في مجالات الأمن والطاقة والتكنولوجيا، بالإضافة إلى الاقتصاد والدفاع، أي تعزيز استقلاليته وقدرته على التحرك. وعليه، يفترض البحث في مدى مواءمة ظروف وبنود الاتفاق الأخير الذي وقّعته كل من رئيسة المفوضية الأوروبية والرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الأهداف التي سعت الدول الأوروبية إلى تحقيقها من خلال الاتحاد.
وعليه، لم يُعد كافياً حصر تقييم هذا الاتفاق بين اتجاه عبّر عنه بعض القادة الأوروبيين الذين عدّوه تجسيداً للخضوع لدونالد ترامب أو بالحدّ الأقصى وصمة عار، وبين من سوّق له على أنه جنّب أوروبا حرباً تجارية.
فالواقع الدولي الذي يظهر تحوّلاً نحو التعددية، ويؤكد حقيقة أن العلاقات الدولية ليست إلا علاقات قوة ومصلحة، يُسقط الرأي الثاني ويؤكد قصور الرأي الأول عن فهم حقيقة الواقع الدولي الحالي.
فمن خلال مقاربة الواقع الذي حكم العلاقات بين ضفتي الأطلسي، خصوصاً منذ فترة الرئاسة الأولى لدونالد ترامب، أي منذ عام 2017، سيظهر واضحاً أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد في رؤيتها للقوى الدولية على مفاهيم سادت تقليدياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي حلفاء دائمين وأعداء دائمين، وإنما باتت تقارب علاقاتها مع هذه القوى وفق ما يناسب مصالحها وتوجهاتها، أي أميركا أولاً. فالتوجه الذي يتبنى شعار أميركا أولاً يدلل على أن محاولة الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة باتت تصطدم بمنافسين أقوياء، وأن حدود القوة الأميركية الحالية لم تعد قادرة على حماية حلفائها أو مراعاة توجهاتهم. وبالتالي، يدفع هذا الواقع إلى البحث في مدى فهم الاتحاد الأوروبي لواقع العلاقات الدولية المعاصرة، ومدى قدرته على مجاراة تحوّلاتها المتطرفة.
فإذا أضفنا إلى الفشل الأوروبي في مجال الأمن والدفاع، أي بناء جيش أوروبي حقيقي، وكذلك في مجال بناء سياسة خارجية مشتركة مستقلة عن الولايات المتحدة من دون أن ننسى فشله في معالجة ملفات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وملفات الهجرة التي واجهته منذ 2010، فشلاً آخر يتمثل في عدم قدرته على استيعاب توجهات القوى الدولية وكيفية مقاربتها لعلاقاتها الدولية، وإظهار عدم القدرة أو عدم الاستعداد لتبني توجهات براغماتية مطلقة تتجسد بالتخلي عن فرضية الحلفاء الدائمين والأعداء الدائمين، فإن ذلك سيطرح البحث في مدى قدرة مشروع طوباوي متجمّد في زمن الحرب الباردة، ومقتنع بسرمدية التحالف مع الولايات المتحدة واعتبارها علاقة لازمة لوجوده، على مواجهة تحديات مستقبلية سيطغى عليها، كما شعار أميركا أولاً، شعار المصلحة القومية لأي قوة أولاً.