الانتخابات في قبرص التركية.. من المهزوم؟

القوميون في الطرفين التركي واليوناني يتأثرون بمواقف العدوين التقليديين والتاريخيين أنقرة وأثينا، ولا يريد أحد  في واشنطن لهما أن يتفقا على صيغة مشتركة تساهم في حل المشكلة القبرصية.

0:00
  • من المتوقع أن  يواجه الرئيس الجديد أر هورمان  أزمة جديدة في علاقاته مع أنقرة.
    من المتوقع أن  يواجه الرئيس الجديد أر هورمان  أزمة جديدة في علاقاته مع أنقرة.

في الوقت الذي يواجه الرئيس إردوغان معارضة عنيفة في الداخل التركي، وهو ما لم يتأثر به بسبب سيطرته على جميع مؤسسات ومرافق الدولة التركية، وبشكل خاص البرلمان والجيش والأمن والقضاء والمال، فوجئ الجميع بالانتصار الكبير الذي حققه مرشح  الحزب الجمهوري التركي طوفان أر هورمان الذي أصبح الرئيس الجديد لجمهورية شمال قبرص التركية  بعدما حصل على ٦١،٧ ٪؜ من  أصوات الناخبين، وعددهم ٢١٨ ألفاً  (توجه ١٤١ ألفاً إلى صناديق الاقتراع) في مقابل  ٣٥،٨ ٪؜ للرئيس الحالي أرسين تتار.

واعتبرت الأوساط السياسية هزيمة تيار بهذه النسبة بمنزلة الهزيمة غير المباشرة للرئيس إردوغان الذي استنفر جميع إمكانيات الدولة  التركية، سراً كان أم  علناً، لدعمه ومنع أر هورمان من الوصول إلى السلطة باعتبار أنه معارض للنهج التركي الرسمي في ما يتعلق بالسياسة القبرصية، كما أنه محسوب على اليسار المعارض لسياسات ومقولات الرئيس إردوغان، وهو أيضاً صديق مقرب من أوزكور آوزال؛ زعيم زعيم حزب الشعب الجمهوري في تركيا.

وأعلن أوزال مباركته لانتصار أر هورمان واعتبره "موقفاً واضحاً من الناخبين القبارصة  الأتراك ضد تدخلات أنقرة في الجزيرة"، من دون أن يمنع  ذلك الرئيس إردوغان من تهنئة أر هورمان معلناً "استمرار دعم أنقرة  لجمهورية قبرص التركية باعتبارها قضية قومية لتركيا والأتراك".

وجاءت المفاجأة الأهم من زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي، وهو حليف إردوغان، حيث رفض نتائج الانتخابات، وناشد برلمان جمهورية شمال قبرص التركية لعقد جلسة طارئة وعدم الاعتراف بالنتائج واتخاذ قرار الانضمام إلى تركيا فوراً.

ومن المتوقع أن  يواجه الرئيس الجديد أر هورمان  أزمة جديدة في علاقاته مع أنقرة على الرغم من مقولاته المرنة خلال الحملة الانتخابية ما دامت جمهورية قبرص التركية بحاجة مطلقة لتركيا التي تسيطر على كل شيء في الشطر الشمالي منذ التدخل العسكري التركي في الجزيرة في تموز/ يوليو ١٩٧٤.

يرى اليساريون الأتراك  في الصيغة الفدرالية بكيانين مستقلين الحل المعقول للمشكلة القبرصية في الوقت الذي تدعو أحزاب اليمين المدعومة من أنقرة إلى تقسيم الجزيرة عملياً، وهو الحال عليه منذ خمسين عاماً. وقد فشلت جميع المساعي الدولية والأميركية والأوروبية في التوصل إلى أيّ حلّ معقول للمشكلة القبرصية بسبب التعنت في موقف أنقرة وأثينا مع استمرار الدعم الأوربي للقبارصة اليونانيين الذين انضموا إلى الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٤ بصفتهم يمثلون جمهورية قبرص المعترف بها دولياً، فيما لا يعترف أحد حتى الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في القوقاز وآسيا الوسطى  بجمهورية شمال قبرص التركية التي تشكل العائق الأساسي أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مع استمرار الحصار المفروض على القبارصة الأتراك الذين صوتوا  لمرشح اليسار طوفان أرهورمان كرد فعل على فشل سياسات أنقرة في حل مشكلاتهم ومشكلات تركيا التي تنعكس عليهم بشكل مباشر.

وهو  ما جعل من الشطر الشمالي للجزيرة مرتعاً لعصابات المافيا ودور القمار  وغسيل الأموال وتجارة المخدرات وفق العشرات من تقارير الأجهزة والمنظمات الأوروبية والأميركية والدولية. وتتهم هذه التقارير العديد من الأوساط السياسية في أنقرة بالعلاقة بكل هذه القضايا الخطيرة التي تحدث عنها زعيم المافيا الأسبق سادات بكار بأدق التفاصيل  في حسابه في يوتيوب، وقبل أن تتواصل السلطات التركية مع حكومة أبو ظبي لمنعه من الحديث من دبي حيث هو مقيم.

في الوقت الذي يبدو واضحاً أن الكيان الصهيوني استغل هذه الظروف السلبية في الشطر الشمالي من الجزيرة، حيث يتحدث الإعلام القبرصي التركي باستمرار عن نشاط سري وعلني للعشرات من الشركات الاسرائيلية أو الأميركية اليهودية، والتي اشترت مساحات واسعة من الأراضي، وبنت فيها مجمعات سكنية في الوقت الذي تقوم شركة إسرائيلية بتشغيل مرفأ للقوارب السياحية شرق الشطر الشمالي وقبالة السواحل السورية.

ودون أن يهمل الكيان العبري في الوقت نفسه علاقاته الرسمية مع القبارصة اليونانيين بعدما وقع على العديد من اتفاقيات التعاون العسكري والاستخباراتي مع نيقوسيا التي يقوم جيشها بمناورات مشتركة مع "الجيش" الإسرائيلي في الأراضي والأجواء القبرصية وبالتنسيق  والتعاون مع أثينا الحليف الثالث للكيان العبري الذي وقع مع نيقوسيا على العديد من الاتفاقيات لتقاسم المياه الدولية بين الطرفين والغنية بالغاز والبترول.

في الوقت الذي يتحدث الإعلام الإسرائيلي باستمرار عن أهمية قبرص الاستراتيجية بالنسبة إلى "إسرائيل" واليهود الذين بدأ اهتمامهم بالجزيرة منذ عهد السلطان العثماني  سليمان القانون (١٥٥٠ ميلادي)،  وكانت زوجته اليهودية تسيطر على القصر العثماني، وكان فيه الكثير من المستشارين اليهود، وطلبوا من القانوني أن يعطيهم الجزيرة.

وفكرت لندن في أن تمنح الجزيرة لليهود كموطئ قدم لهم بعدما قام السلطان عبد الحميد  بتأجير الجزيرة بشكل "مؤقت" ولمدة  لخمسين عاماً لبريطانيا عام ١٨٧٨ في مقابل دعم بريطاني له في حربه ضد روسيا، في الوقت الذي تستخدم فرنسا و الولايات المتحدة الأميركية قاعدتي اغراتور وديكيليا البريطانية في الجزيرة دون أي اعتراض من القبارصة اليونانيين أو الأتراك. وبات واضحاً أنه  وبعد خمسين عاماً من الفراق لا ولن يكون سهلاً جمعهم في جمهورية موحدة بعدما عاشت هذه الجمهورية  الكثير من الأزمات بعد استقلالها عن بريطانيا عام ١٩٦٠.

وقد كان القوميون في الطرفين التركي واليوناني يتأثرون بمواقف العدوين التقليديين والتاريخيين  أنقرة وأثينا، ولا يريد أحد  في واشنطن والعواصم الأوروبية، بل وحتى "تل أبيب"، لهما أن تتفقا على صيغة مشتركة تساهم في حل المشكلة القبرصية.

علماً أن حل هذه المشكلة  سهل جداً مقارنة بالأزمات الاقليمية والدولية التي يقول الرئيس ترامب إنه سيحلّها جميعاً، من دون أن يكون واضحاً إلى  جانب من سينحاز: أنقرة أم أثينا التي وقفت إلى جانب "تل أبيب" وضد روسيا، وعلى الرغم من مذهبها الأرثودكسي، وهو مذهب القبارصة اليونانيين أيضاً!

ويبقى الرهان في نهاية المطاف على احتمالات الاتفاق التركي -اليوناني على صيغة ما تساهم في حل المشكلة القبرصية، وحلها لا ولن يكون ممكناً مع استمرار الخلافات بين البلدين في ما يتعلق بالعديد من القضايا، وأهمها تقاسم المياه والأجواء الإقليمية والدولية في وفوق بحر إيجة، وحتى لو تجاهل الطرفان  الذكريات التاريخية بين اليونانيين والأتراك منذ أن جاء السلطان محمد الفاتح وأخذ القسطنطينية من البيزنطينيين عام ١٤٥٣ وسماها إسطنبول.

ولم يبقَ فيها، بل في جميع أنحاء تركيا الحالية، سوى ١٥٠٠ شخص فقط بعدما كانت الدولة البيزنطينية تسيطر على معظم هذه الأراضي التي استولت عليها الدولة العثمانية، وبعدها امتدّت  غرباً لتسيطر على البلقان برمته، حتى كوسوفو والبوسنة والبانيا وبلغاريا وأجزاء من المجر والنمسا وكل اليونان، وفيها أقلية تركية ترى فيهم أثينا امتداداً للحسابات القومية والدينية لتركيا تحت حكم العدالة والتنمية الذي يتغنى بأمجاد الدولة والإمبراطورية العثمانية التي قضت على الدولة البيزنطينية، فيما دمر مصطفى كمال أتاتورك عام ١٩٢٢-١٩٢٣ أحلام اليونانيين بشكل نهائي عندما طردهم من الأناضول الذي احتلوه بعد الحرب العالمية الأولى، وبدعم من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وعلاقاتها الآن مع أنقرة تحت حكم  الرئيس إردوغان تحددها المصالح، وليس المقولات والشعارات الحماسية، دينية كانت أم طائفية بل وحتى قومية!