التقارب العراقي - السوري... نهج متردد وحالة من عدم اليقين
الواقع الجيوسياسي الجديد في الشرق الأوسط والذي نتج عن سقوط نظام الأسد في سوريا فرض واقعاً جديداً، وكان العراق الأكثر حذراً في التعاطي مع هذا الواقع لاعتبارات عديدة.
-
العلاقات السورية العراقية.. ماذا عن المرحلة المقبلة؟
سوريا والعراق بلدان لا يعرف القارئ لأدبياتهما على ماذا يختلفان، لكنّ الواقع كان عكس ذلك، ولعدة عقود، وخاصة منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي لحكم البلدين في العام 1963.
كانت المنافسة والخلافات هي السمة الأبرز لتلك العلاقات، ولم يكن الاتفاق بين البلدين سوى حالة طارئة فرضتها متغيّرات خارجة عن إرادة كلا البلدين.
وقوف سوريا إلى جانب إيران في الحرب العراقية الإيرانية كان نقطة تحوّل أدّت إلى خروج سوريا من وحدة الصف العربي المنحاز والداعم للعراق في حربه ضدّ إيران "وأطماعها التوسّعية".
نهاية تلك الحرب كانت بداية تحوّل في الانفتاح العربي على دمشق بعد وقوفها إلى جانب التحالف الدولي لتحرير الكويت في العام 1991.
هزيمة العراق وتدمير جيشه الذي كان يعدّ رابع جيش في العالم، والعقوبات الدولية على بغداد دفعته إلى المزيد من التقارب مع دمشق باعتبارها خياراً للتهرّب من بعض تلك العقوبات.
وفاة الرئيس حافظ الأسد ووصول بشار الأسد لحكم سوريا عزّز من التعاون بين البلدين، فكان العراق بمثابة الفرصة الاقتصادية لسوريا في ذلك الوقت.
وقفت سوريا إلى جانب العراق وزاد التعاون والتنسيق معها في مواجهتها للتهديدات الأميركية، لكنّ المفاجأة كانت بسرعة سقوط النظام العراقي في التاسع من نيسان/أبريل 2003.
تصريحات المسؤولين الأميركيين أنّ الهدف المقبل هو دمشق، دفع الحكومة السورية لتجنيد المجاهدين للقتال في العراق ضدّ الاحتلال الأميركي.
الكثير من هؤلاء ذهب بدوافع نبيلة، وانطلاقاً من واجب ديني يحتّم عليهم الوقوف إلى جانب العراق، فاستشهد بعضهم وأودع آخرون السجون الأميركية، فيما عاد بعضهم لكنه لم يعد كما كان، فقد أصبحت الرغبة في الجهاد مسيطرة على وجدانه وضميره.
كان الاحتلال الأميركي للعراق نقطة خلاف كبيرة بين سوريا وإيران، خاصة وأنّ طهران باتت الرابح الأكبر مما يجري هناك، فأصبح النفوذ الإيراني في العراق واقعاً لا يمكن تجاهله.
دمشق الداعمة لحزب الله في لبنان، باتت الحليف الأقوى للمقاومة في العراق، وهو ما يؤكّد أنّ الدين والمذهب ليس سوى أداة تستخدمها السياسة.
وقفت سوريا ضد المحاصصة الطائفية في العراق، وسعت إلى عدم استقرار الأوضاع هناك، وهو ما زاد من الضغوط الدولية على دمشق، وأدى في المحصّلة إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.
وقفت سوريا إلى جانب إياد علاوي في ترشّحه ضد نوري المالكي لرئاسة الحكومة العراقية، لكنّ المالكي كان من أشدّ الداعمين للنظام السوري بعد قيام الثورة السورية في العام 2011.
وقوع الأحداث في سوريا أعاد هيكلة خارطة التحالفات الإقليمية في المنطقة، وخاصة في العراق ولبنان، حيث باتت الفصائل الشيعية المدعومة من إيران الداعم الرئيس للنظام السوري.
تحالفات سياسية قرأها البعض قراءة دينية ومذهبية، في مساعٍ الهدف منها التجييش الشعبي، باستخدام خطاب شعبوي يثير الغرائز ويبعد من يتأثّر به عن القدرة على المحاكمة العقلية الصحيحة.
باتت الفصائل العراقية حاضرة ومتدخّلة في الواقع السوري، وهو ما تسبّب بنقمة كبيرة عليها من قبل الشريحة الأكبر من الشعب السوري، باعتبارها الداعم لنظام بات إسقاطه حاجة شعبية ودولية كما أثبتت الأيام ذلك.
سقوط النظام في سوريا وارتداداته العربية والإقليمية..
الواقع الجيوسياسي الجديد في الشرق الأوسط والذي نتج عن سقوط نظام الأسد في سوريا فرض واقعاً اقتصادياً وأمنياً جديداً.
كان العراق الأكثر حذراً في التعاطي مع الواقع السوري الجديد، لاعتبارات تتعلّق بالخلفيّة الجهادية لحكّام سوريا الجدد، والخشية من انتقال ذلك إلى العراق.
العراق اعتمد نهجاً براغماتياً مدروساً، فلم يتسرّع بالانخراط في إقامة علاقات بين البلدين، كما أنّ بغداد لم تنكفئ عن الواقع الجديد في سوريا.
كانت الأولوية بالنسبة للعراق هي التعاطي مع الواقع الأمني الجديد، فكانت الزيارة الأولى لرئيس الاستخبارات العراقية إلى دمشق، والاجتماع مع المسؤولين السوريين وعلى رأسهم الرئيس أحمد الشرع.
وجّهت بغداد الدعوة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لزيارة العراق، تلك الزيارة جرى تأجيلها مرتين، لكنها حدثت في المحصّلة، وكانت ناجحة وفقاً لتصريحات المسؤولين في كلا البلدين.
الاتصال الهاتفي من قبل رئيس الحكومة العراقية محمد شيّاع السوداني بالرئيس السوري أحمد الشرع للتهنئة بمناسبة عيد الفطر كان مؤشراً على تطوّر العلاقات بين البلدين.
تصريحات السوداني عن توجيه دعوة رسمية للرئيس السوري أحمد الشرع لحضور القمة العربية التي ستعقد في بغداد في 17 أيار/مايو المقبل، حسم النقاش الدائر وبات من المتوقّع أن يكون الشرع "نجم القمة" لاعتبارات كثيرة.
دمشق ترغب في أن يكون الجيش العراقي هو المسيطر على الحدود بين البلدين، وأن تتعاطى مع الحكومة العراقية باعتبارها الممثّل الوحيد للشعب العراقي، وما الخلافات بين المكوّنات السياسية العراقية سوى شأن داخلي.
ترى دمشق أنّ المخاوف العراقية من "داعش" ليست مبرّرة، فدمشق لم تصدّر "داعش" إلى العراق، بل إنّ التنظيم ولد في العراق ثم انتقل إلى سوريا.
عدم قدرة الجيش السوري على حماية الحدود مع العراق كان بسبب الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة والتي سمحت للجيش الأميركي باستخدام العراق قاعدة لضرباته للجيش السوري في المنطقة الشرقية.
دمشق بحاجة أيضاً إلى موقف عراقي واضح من "فلول النظام" السوري السابق الذين فرّوا إلى العراق، ويجري الحديث عن وجودهم ضمن معسكرات تدريبية هناك.
رسائل إيجابية أرسلتها الحكومة السورية عبر تعهّدها بحماية الأقليات والأماكن المقدّسة الشيعية، التي زارها السفير العراقي في دمشق وعبّر عن ارتياحه لما رآه هناك.
وزير الثقافة السوري محمد ياسين الصالح زار مقام السيدة زينب في ريف دمشق في إطار تأكيد قيم الوحدة الوطنية والتلاحم بين مكوّنات الشعب السوري.
الرئيس السوري أحمد الشرع التقى وفداً من الطائفة الشيعية في سوريا في نهاية شهر آذار/مارس الماضي ترّأسه الشيخ أدهم الخطيب، واستمر الاجتماع لأكثر من ساعتين، حيث جرى الاستماع إلى مطالب أبناء الطائفة الشيعية ومخاوفهم.
المساعي القطرية لتقريب وجهات النظر بين البلدين..
أدّت قطر دوراً في تطوّر العلاقات بين البلدين توّج بالاجتماع الثلاثي الذي جمع كلاً من الرئيس السوري أحمد الشرع ورئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بحضور الأمير تميم.
موقف التيارات السياسية العراقية تمحور بين مرحّب ومعارض بشدة، ولكنّ الحديث يجري عن أنّ اللقاء تمّ بموافقة من الإطار التنسيقي الشيعي.
قطر كانت داعماً أساسياً للثورة السورية إلى جانب تركيا، وباتت اليوم كلتا الدولتان تعملان على استخدام نفوذهما في التسويق السياسي لحكّام سوريا الجدد.
رئيس الحكومة العراقية وجد نفسه محاطاً بموقف عربي داعم لسوريا، وخاصة من قبل الدول الفاعلة وعلى رأسها قطر والإمارات والمملكة العربية السعودية.
الانفتاح الإقليمي والدولي على دمشق يحتّم على العراق التقارب معها وترك الباب موارباً على الأقل، فإغلاق الأبواب ستكون له انعكاسات سلبية على علاقات بغداد العربية والدولية.
التقارب السوري مع إيران لن يكون مفاجئاً، خاصة وأنّ هناك مساعي خليجية وتركية تصبّ في هذا الإطار، وهو أمر فيما لو تحقّق سيشكّل بداية للتأسيس لمستقبل جديد في المنطقة عنوانه التعاون العربي الإيراني.
رغبة الولايات المتحدة في التهدئة في منطقة الشرق الأوسط، للتفرّغ لمعركتها المصيرية في مواجهة الصين، تعزّز هذا الاتجاه، واستئناف المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران خير دليل على ذلك.
التجاذبات الانتخابية في الداخل العراقي جعلت من التقارب مع سوريا عنواناً انتخابياً للسيد السوداني، باعتبار العلاقة مع دمشق مدعومة من كل من تركيا وقطر والسعودية والإمارات.
حاجة كلا البلدين للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب يزيد من رغبتهما في التعاون وخاصة حول مصير مخيم الهول والقتال ضد "داعش".
العراق يتقدّم وبشكل حذر في تطوير علاقاته مع سوريا الجديدة وينظر إلى الجانب الأمني بكثير من الحذر، وهو ما دفعه لتعزيز إجراءاته الأمنية على طول الشريط الحدودي بين البلدين والذي يزيد على 600 كم.
دعوة الرئيس الشرع لحضور قمة بغداد أمر لا بدّ منه، فالبديل حينها قد يكون مقاطعة بعض الدول العربية للقمة، أو نقل القمة إلى دمشق التي كانت قد تنازلت عن دورها في استضافة القمة للعراق.
غياب الشرع عن القمة سيفسّر على أنه ناتج من اعتبارات أمنية، بمعنى عدم قدرة الحكومة العراقية على تأمين سلامته الشخصية، وهو ما قد ينعكس على مستوى مشاركة باقي الدول العربية في القمة لجهة غياب بعض القادة والملوك العرب خوفاً على سلامتهم.
الحكومة العراقية تريد أن تكون قمة بغداد علامة فارقة في العمل العربي المشترك، وهو ما يتطلّب إيجاد حلّ للكثير من الخلافات العالقة بين الدول العربية.
الضغط على حكومة بغداد من قبل بعض الفصائل قد يدفعها إلى نقل القمة إلى مدينة أربيل، باعتبارها إحدى المدن العراقية الأكثر أماناً، وهو ما لا تريده جميع التيارات السياسية في بغداد بكلّ تأكيد.
ويبقى السؤال: هل سنرى الشرع حاضراً في قمة بغداد لما لذلك من انعكاسات إيجابية على مستقبل العلاقات في منطقة الشرق الأوسط نتيجة لإدماج سوريا في محيطها العربي والإقليمي.