التهدئة في غزة.. لماذا أذعن العدو أخيراً!
بعد أن توقّف ضجيج المعارك في قطاع غزة، وبعد أن هدأت أصوات المدافع وهدير الدبابات والطائرات، وبعيداً عن إطلاق الأحكام المسبقة، فإن مستقبل هذه المستوطنة المسمّاة "إسرائيل " لن يكون بأي حال من الأحوال كماضيها.
وأخيراً، وبعد طول انتظار، نزل نتنياهو وحكومته المتطرّفة عن شجرة العناد والغطرسة التي اعتلوا فروعها طيلة خمسة عشر شهراً ماضية، واضطروا في ظل ظروف بالغة التعقيد تمر بها "الدولة " العبرية إلى الرضوخ لمطالب المقاومة المحقّة والمشروعة، والتي رفضوها مراراً وتكراراً، بل وأعلنوا بصريح العبارة طوال الأشهر الماضية أنهم لن يقبلوا بها، وأن حربهم المجنونة ضد غزة الصامدة والأبيّة ستستمر إلى ما لا نهاية، وأن الشرط الوحيد لإنهائها هو تحقيق كل الأهداف المُعلنة التي تم رفعها في بداية العدوان مساء السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023.
في الثاني من أيار/مايو من العام المنصرم، قدّمت المقاومة الفلسطينية رؤيتها للحل الذي يؤدي إلى وقف إطلاق النار في غزة، وأبدت خلال تلك الرؤية مرونة كبيرة؛ نظراً للظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني داخل القطاع الصغير والمحاصر في ظل العدوان الواسع والهمجي، والذي أدّى إلى سقوط ما يزيد على خمسين ألف شهيد معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب عشرات الآلاف من المصابين، ودمار هائل وغير مسبوق في البنى التحتية على اختلاف أنواعها.
حينها، رفض نتنياهو رؤية المقاومة كما رفض سابقاتها، مع أنها لاقت استحساناً وقبولاً من جميع الوسطاء الإقليميين والدوليين، بمن فيهم الجانب الأميركي، الذي رأى فيها مخرجاً للعديد من الأزمات التي تمر بها المنطقة والعالم، إلى جانب عدم رغبته في توسّع الصراع بما يشكّل خطراً على وجود قواته في المنطقة من جهة، بالإضافة إلى رغبته في إتمام مشاريع وخطط تخص المنطقة تمت عرقلتها نتيجة موقف بعض الدول العربية على وجه الخصوص من الحرب على غزة.
في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، حسب ما تقول مصادر في المقاومة، حدث تغيّر لافت في الموقف الإسرائيلي، وتحديداً في موقف رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، وهو الذي كان يُفشل في كل مرة التوصل إلى اتفاقات في مراحلها الأخيرة، وكان يُصر على وضع العراقيل في طريق عجلتها، التي قاربت في عديد المرات من الوصول إلى خواتيمها السعيدة، ومن إنجاز اتفاق، وإن بشكل جزئي ومرحلي.
فما الذي حدث حتى ينقلب موقف نتنياهو بهذه الصورة، على الرغم من أن الأهداف التي رفعها لم تتحقّق، وما الذي دفعه إلى الجنوح نحو صفقة رفضها سابقاً، رغم استمرار معارضة بعض حلفائه في الائتلاف الحاكم من أمثال بن غفير وسموتريتش، واللذين كان يستخدمهما كفزّاعة لتبرير انقلاباته على التوافقات السابقة، أو التنصّل من تعهّداته كما جرى بعد الإعلان عن خطة الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي تبنّاها مجلس الأمن الدولي بأغلبية كاسحة، وهي التي كانت في الأساس، كما قالت المصادر الأميركية، خطة إسرائيلية تم التوافق عليها داخل المجلس الوزاري المصغّر في "إسرائيل " قبل أن يتبنّاها الرئيس الأميركي المنصرف.
في اعتقادي، هناك أربعة أسباب رئيسية لهذا التغيّر اللافت، وقد أدّت حسب ما تقول مصادر مطّلعة إلى استسلام نتنياهو بعد فترة العناد الطويلة، وإلى قبوله بصفقة تحمل مواصفات الصفقات السابقة نفسها تقريباً، مع استمراره في المكابرة من خلال الادّعاء بأنها صفقة مؤقتة فقط، وأن بإمكان "جيشه" المنهك أن يعود إلى القتال مرة أخرى.
أولاً ، موقف الرئيس الأميركي الجديد:
كان واضحاً منذ انتخاب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وعلى الرغم من تأييده المعلن لـ"إسرائيل "، وإعلانه المتكرر بأنه أفضل صديق لها،كما هي حال كل الرؤساء الأميركيين من قبله، أن لديه موقفاً مختلفاً عن سلفه جو بايدن، والذي وإن طالب أكثر من مرة بالتوصّل إلى اتفاق، إلا أنه كان يعجز عن فرض رؤيته على الإسرائيليين، وذلك يعود لأسباب كثيرة كان من بينها اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، والضغوط التي يمارسها عليه بعض مستشاريه ومعاونيه المقرّبين، والذين يُعرفون بتأييدهم الكاسح لـ "إسرائيل "، وفي المقدمة منهم وزير خارجيته اليهودي أنتوني بلينكن.
بعد وصول ترامب إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض، والذي يسعى بدوره للتفرّغ لملفات أخرى حول العالم يرى أنها أكثر أهمية من الصراع في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الصراع على اقتصاد العالم مع الصين، بالإضافة إلى رغبته في حسم الحرب الروسية- الأوكرانية، وملفات أخرى داخلية وخارجية شائكة ومعقّدة، فإنه بدا واضحاً بالنسبة إلى نتنياهو أن مواصلة حربه على غزة قد يخلق أزمات مع الرئيس الأميركي الجديد هو في أمسّ الحاجة إلى الابتعاد عنها، وإلى تلافي تأثيراتها على مستقبله السياسي، والذي يترنّح بين فشل متعدد ومتلاحق على صعد مختلفة، وبين ملاحقة قضائية قد تكتب الفصل الأخير في حياته السياسية.
ثانياً، موقف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية:
على الرغم من أن المؤسسة العسكرية في "إسرائيل" هي مؤسسة تنفيذية بالدرجة الأولى، وهي تخضع بشكل كامل لأوامر الجهات السياسية التي يأتي على رأسها رئيس الوزراء في "الدولة"، فإن هذه المؤسسة التي تستحوذ على معظم موازنة الدولة منذ نشأتها قبل 76 عاماً تقريباً، والتي يُنظر إليها بأنها الذراع الضاربة للدولة، وأنها ليست مكلّفة بالدفاع عن سكّان "دولة إسرائيل" فحسب، بل عن كل المواطنين اليهود على امتداد دول العالم، إذ إن رغبتها في إيقاف الحرب، والاكتفاء بما تحقّق من "إنجازات" حسب زعمها، قد شكّل عاملاً ضاغطاً على المستوى السياسي الإسرائيلي، وقد ازداد هذا الضغط نتيجة رغبة المؤسسة العسكرية وفي المقدّمة منها وزير الحرب السابق يؤاف غالانت، ووزير الأركان هرتسي هاليفي في التهرّب من المسؤولية عن إخفاق السابع من أكتوبر، والرغبة في التوصل إلى وقف إطلاق نار قد ينقذ ما يمكن إنقاذه من هيبة وقدرة هذه المؤسسة، والتي لم تعهد خلال السنوات الماضية إخفاقاً وفشلاً يماثل ما حدث خلال الفترة الماضية، والتي شهدت سقوط نظرية "الوهم" الإسرائيلية، وتبدّد أسطورة الدولة القوية والمقتدرة، وانتهاء الزمن الذي كان يوصف فيه "الجيش" الإسرائيلي بأنه جيش لا يُهزم.
ثالثاً، المراوحة العمليّاتية في ميدان القتال:
بعد الشهر التاسع من العملية البرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتحديداً بعد مرور شهرين على بدء الهجوم البري على مدينة رفح، والتي وصفها العدو حينذاك بـ "أم المعارك "، وأنها ستكتب شهادة وفاة المقاومة في كل أرجاء القطاع، دخلت العمليات القتالية الإسرائيلية في حالة من الجمود والمراوحة، إذ أن استمرار المعارك المتنقّلة في المناطق المختلفة من القطاع، والتي دخلتها القوات الإسرائيلية سابقاً لم تحقّق أي إنجاز يُذكر، إذ انصبت جهود كل الفرق والألوية والكتائب العسكرية على تدمير مزيد من المنازل والمنشآت الفلسطينية فقط، بعيداً عن الأهداف العمليّاتية للحرب، والتي كانت تتركّز حول تدمير قدرات المقاومة بشكل كامل، وسحق كتائبها العاملة في محافظات القطاع المختلفة، ما يؤدي في نهاية المطاف حسب الرؤية الإسرائيلية إلى وقف القتال من جانب واحد وهو الطرف الفلسطيني، وهو الأمر الذي يعني انتصاراً ساحقاً لـ"جيش" الاحتلال، وانهيار وتفكّك فصائل المقاومة، وغيابها بشكل كامل عن المشهد خلال المرحلة القادمة.
وبما أن هذا الأمر لم يحدث، وواصلت المقاومة تصدّيها البطولي في كل المحافظات والمدن، بل وواصلت قصف المدن الصهيونية والمستعمرات القريبة والبعيدة بالصواريخ، فإن الشعور بالعجز والإخفاق بات يسيطر على عقل ووجدان المنظومة العسكرية الصهيونية، لا سيّما تلك العاملة داخل أراضي القطاع، وهو ما نتج عنه حالة من المراوحة والجمود العمليّاتي لم تستطع عمليات النسف والتدمير الممنهجة أن تغطّي عليها، ولا أن تجمّل صورتها التي باتت واضحة وجليّة.
رابعاً، ارتفاع عدّاد الخسائر بصورة حادّة:
على الرغم من أن ما تكبّدته "الدولة " العبرية من خسائر في السنة الأولى من عدوانها على قطاع غزة يُعدّ الأعلى في تاريخها، وعلى الرغم من أن تلك الخسائر شكّلت عاملاً ضاغطاً على المستويين الرسمي والشعبي خلال الفترة نفسها، فإن ما جرى خلال الشهور الثلاثة الأخيرة وتحديداً في شمال القطاع قد شكّل انتكاسة كبيرة لـ"جيش" الاحتلال، ولفرقه النخبوية والخاصة، إذ إن الارتفاع "الجنوني" حسب بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية في عداد القتلى والمصابين في قطاع غزة، وخصوصاً في المعارك الدائرة في شماله المدمّر والمحاصر، قد شكّل ضغطاً هائلاً على المستوى السياسي في "إسرائيل "، لا سيّما أن معظم الذين سقطوا في معارك جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون كانوا من فئة الضبّاط، والذين بلغ عددهم حسب اعتراف "جي"ش الاحتلال نحو خمسين ضابطاً وجندياً، في حين تقول المقاومة إن العدد أكبر من ذلك بكثير.
هذه الخسائر الفادحة، والتي وقعت في منطقة تم حصارها بشكل كامل، وتم فصلها عن جوارها الجنوبي مع مدينة غزة بعد التهجير القسري لمعظم سكانها، وعلى الرغم مما تعرّضت له من قصف جوي هائل، ومن تدمير غير مسبوق بواسطة الروبوتات المفخخة، والبراميل المتفجرة، أدّت إلى ما يشبه الانتفاضة في وجه متّخذي القرار، سواء كانوا من المستوى العسكري أو السياسي، وهو ما أدى إلى سحب العديد من الألوية المقاتلة واستبدالها بأخرى، في محاولة لتخفيف الضغط الناتج عن الخسائر البشرية والمادية، وما يمكن أن يشكّله من ضغط إضافي يُلقي مزيداً من الشك حول مجمل الأوضاع في "الدولة" العبرية، التي تعاني في الأساس أزمات ومصاعب كبيرة ومتعددة.
على كل حال، وبعد أن توقّف ضجيج المعارك في مدن ومخيمات القطاع وإن بشكل مؤقت، وبعد أن هدأت أصوات المدافع وهدير الدبابات والطائرات، وبعيداً عن إطلاق الأحكام المسبقة في ما يخص النتائج الاستراتيجية وطويلة المدى لهذه الحرب القاسية والصعبة، فإن مستقبل هذه المستوطنة المسمّاة "إسرائيل " لن يكون بأي حال من الأحوال كماضيها، وإن قادم أيامها لن يكون أفضل حالاً من سابقاتها، وأن المستقبل الذي يدّعي قادة هذه "الدولة" المارقة بأنه سيكون مبشّراً وحالما سيتحوّل مع مضي الأيام إلى نكبات ونكسات قد لا يُصلحها الدعم الأميركي، ولا التواطؤ الإقليمي والتخاذل العربي.
في العام 2005 اضطر الاحتلال إلى تفكيك مستوطنة "نتساريم" وسط القطاع، الى جانب عشرين مستوطنة أخرى في جنوبه وشماله، والانسحاب من غزة من جانب واحد ومن دون اتفاق بفعل ضربات المقاومة، التي لم تكن تمتلك في ذلك الوقت سوى القليل من الإمكانيات. في هذه المرة، اضطر مرة أخرى لتفكيك المنشآت التي بناها على الأراضي التي كانت مقامة عليها هذه المستوطنة، والتي بدا البعض منها بأنه دائم، ويمكن أن يمثّل بنية تحتية صالحة لوجود عسكري مستدام يمهّد لعودة الاستيطان إلى القطاع.
في المرة القادمة والتي لا نراها بعيدة، سيضطر هذا الكيان المجرم إلى تفكيك مدن بأكملها، ولكنها هذه المرة ليست داخل قطاع غزة، ولا في الضفة الغربية المحتلة، بل في قلب هذه "الدولة" الملعونة، وسيضطر المستعمرون من سكّان هذه المدن إلى جمع أغراضهم على عجل والمغادرة إلى الدول التي جاؤوا منها.
قد يقول البعض إن هذا الأمر من سابع المستحيلات في ظل موازين القوى القائمة حالياً، وقد يقول آخرون إن المعطيات الحالية لا تشي بذلك، لا سيّما بعد الدمار الهائل الذي لحق بغزة، والتغيّرات والتحوّلات الدراماتيكية على مستوى المنطقة والإقليم، وهذا قد يبدو في بعض تفاصيله صحيحاً، إلا أن المتتبّع لسنن الكون، وللتحوّلات التاريخية الكبرى التي جرت على مر العصور الماضية، يؤمن بما لا يدع مجالاً للشك أن تفكّك هذا المشروع السرطاني قد بدأ، وأن ساعة زواله قد حانت، وأنه سيدفع ثمن كل ما ارتكبت يداه من جرائم بحق الفلسطينيين، وبحق الإنسانية جمعاء.