الحكومة الجديدة في سوريا.. خطوة لبناء عقد وطني جامع
مشكلات كبيرة تنتظر الحكومة الجديدة وعلى رأسها معالجة أوضاع الموظفين الذين تمت إقالتهم بشكل مخالف للقانون، ومعالجة قضية البطالة التي باتت "قنبلة موقوتة" لا أحد يدرك حجم تأثيراتها فيما لو انفجرت.
-
ما التحديات أمام الحكومة السورية الجديدة؟
توجهات السوريين حول الحكومة الانتقالية التي تم الإعلان عنها اليوم تتراوح ما بين مؤيد ومعارض، وسط غياب واضح للآراء الوسطية أو القراءات السياسية الهادئة.
"علم السياسة علم غير محايد"، يمكن تفهم ذلك إذا كانت المواقف نابعة من أحزاب أو كتل سياسية أو ممثلين عنها، لكن انتقال تلك الظاهرة إلى الأوساط الشعبية والنخب الأكاديمية والعاملين في حقل الإعلام وغيرهم، يعكس حالة غير صحيحة بكل تأكيد.
اهتمام السوريين بالشأن العام أمر يربك الحكومة، خصوصاً أن العديد منهم يمتلك مجرد "ثقافة سياسية" لا تخوّله القدرة على التقييم، فالتقييم يجب أن يكون محصوراً بالذين يمتلكون "المعرفة السياسية"، وهم ما يمكن أن نطلق عليهم مصطلح "النخب".
حالة "الانقسام السياسي" وصلت حد التمترس وتشكل القناعة لدى البعض بأن أي تغيير في موقفه يشكل انتقاصاً من قيمته، وبالتالي فلا معنى لأي حوار ولا جدوى للنقاشات إذا كانت نتيجتها قد حسمت قبل عقدها.
يخطئ البعض حين يعتقد أن موقفه السياسي يجب اختزاله بـ "مع أو ضد"، بمعنى "مؤيد أو معارض"، متناسياً أن السوريين جميعاً يجب أن يكونوا مؤيدين للصح ومعارضين للخطأ.
مصطلح "التكويع"الذي بات يستخدمه المؤيدون الجدد في وصفهم لمواقف "مؤيدي" النظام السابق مما يجري اليوم في سوريا، متناسين أن الثبات في السياسة يعني الموت، وأنهم في الحقيقة كوّعوا كغيرهم.
لذا، وجدنا الكثير من هؤلاء يتجاهل النظر في مواقفهم الذاتية وتصريحاتهم السابقة، فهل كانوا في الماضي كما هم اليوم؟ وهل كانوا يؤمنون بفكر الدولة والدستور والقوانين الوضعية وسوى ذلك، أم أن الوصول إلى السلطة حتّم عليهم تغيير خطابهم السياسي والتحدث بعقلية "رجل الدولة" الساعي لتسويق نفسه كي يكون مقبولاً لدى دول العالم.
الكثير بات يخجل من ماضيه، لما فيه من عيوب ونواقص وأخطاء، وهذه حالة غير صحيحة. فالعودة عن الخطأ فضيلة، وأن تصل متأخراً خير من أن لا تصل. وبالتالي، فليس عيباً أن ينضج الإنسان فكرياً وسياسياً، ليصل في النهاية إلى بناء شخصيته وتكوينه السياسي.
الكثير من مؤيدي النظام السابق كانوا أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ "الأغلبية الصامتة"، التي لم تكن قادرة على التعبير عن رأيها، والحالة اليوم يمكن أن تنطبق على النظام الحالي، كما أنها موجودة في جميع دول العالم التي لا تكون فيها الحريات مصانة بشكل كبير.
الخوف من المستقبل هو ما يبعث على الاستكانة والتظاهر بالرضا، خصوصاً أن ثمن المعارضة كبير جداً، لا يطيق الكثير من السوريين دفعه.
في الحديث عن الحكومة الجديدة...
أتى الإعلان عن الحكومة الجديدة بعد تأخر دام نحو شهر من الوقت المحدد لذلك، وهذا عائد إلى ظروف واعتبارات، ومراعاة لتوازنات، وواقع مستجد وتحديات داخلية ومطالب خارجية.
اعتذار بعض الشخصيات عن تبوء مقاعد وزارية حالة إيجابية لم تشهدها سوريا منذ عقود، ودليل على سعي الرئيس الشرع للبحث عن شخصيات وازنة وذات توجهات سياسية رصينة.
"طالب السلطة لا يولّى"، قاعدة قد تكون بدأت بالظهور، ومن الممكن أن تتبلور في الحكومات القادمة، وبالتالي فإن العديد من المرشحين بات يدرك حجم التحديات التي تنتظره، خصوصاً أن الإمكانات المتاحة تجعل مهمته شبه مستحيلة.
حجم التسريبات حول أسماء وعدد أعضاء الحكومة الجديدة كبير جداً، ويعكس حالة غير صحيحة، فالمشاورات يفترض أنها تجري في غرف مغلقة وأمام كبار رجال الدولة، وبالتالي فإن السرية أمر ضروري في مثل هذه الحالة.
تصريحات بعض المرشحين لتبوء مقعد وزاري، وتأكيداتهم لوسائل الإعلام أنهم سيكونون حاضرين في الحكومة الجديدة، أمر غير مقبول، ويعكس حالة من سوء التقدير، وعدم القدرة على إدراك طبيعة العمل السياسي.
حصر المقاعد السيادية بالمحسوبين على "هيئة تحرير الشام" أمر منطقي، وهو عرف سياسي معمول به في معظم دول العالم.
الحديث عن حكومة تكنوقراط غير دقيق من الناحية العملية، فالكثير من هؤلاء يفتقد إلى الخبرة، رغم امتلاكه الشهادات العليا، التي تعد شرطاً لازماً لكنه غير كاف في مثل هذه الحالة.
معظم الوزراء، إن لم يكن كلهم، يحمل جنسية دولة أخرى، وبالتالي تحييد من كان موجوداً في سوريا ولم يغادرها، كما أن معظم هؤلاء محسوب على دول خارجية قد تكون لعبت دوراً في إيصاله إلى المنصب.
احتفاظ وزير الخارجية بمنصبه أمر منطقي، خصوصاً أنه كان الوزير الأبرز من ضمن أعضاء الحكومة السابقة، ويبدو أنه قد نجح في تسويق نفسه وبناء شبكة علاقات دولية لسوريا خلال فترة زمنية محدودة.
تولي رئيس الحكومة السابقة محمد البشير موقعاً وزارياً (وزيراً للطاقة) أمر مستغرب، فالعرف السياسي يقتضي عدم حدوث ذلك، إذ إنه لم يكن معروفاً للسوريين الذين لم يسمعوا حتى صوته طوال توليه رئاسة الحكومة التي استمرت نحو أربعة أشهر.
تغيير وزير الصحة السيد ماهر الشرع أتى استجابة لنصيحة المقربين من الرئيس الشرع، الحريصين عليه، والساعين لتعزيز مصداقيته وقبوله أكثر لدى أطياف المجتمع السوري كافة؛ تكريساً لمنطق الدولة وتعزيز الإيمان الشعبي بها أكثر وأكثر.
المرشحون بمعظمهم يحملون شهادات عليا من جامعات أجنبية، ويتحدثون لغة أجنبية أو أكثر، وهو أمر إيجابي يزيد من الثقة بالحكومة الجديدة من قبل باقي الدول.
يشكل الشباب الشريحة الأكبر من أعضاء الحكومة وهو أمر هام وضروري، فهم الأقدر على العطاء، وهم الشريحة التي تعرضت للغياب والتهميش طوال العقود الماضية.
لم يرافق التشكيل الوزاري حديث عن الفساد أو المال السياسي، وهو أمر لم يعتد عليه السوريون طوال فترة حكم النظام البائد.
الدور المنتظر من الحكومة....
رفع سقف التوقعات يوقعنا في الخطأ ويزيد من ثقافة الإحباط التي سيطرت على السوريين لعقود عدة، لذا من المفيد للحكومة القادمة تقديم بيان عمل متواضع، أقرب إلى الواقع، ويكون من الممكن تحقيقه وفقاً لضحالة الإمكانات المتوافرة وكبر حجم التحديات.
الكلمات المختصرة التي ألقاها السادة الوزراء لخصت برنامج عملهم وكانت قريبة من الواقع، ومن الممكن تحقيقها إذا استطاعوا الابتعاد عن البيروقراطية التي أثقلت كاهل الحكومات السابقة.
من المفيد الاستفادة من أخطاء الماضي، فحكومات البعث المتعاقبة ومنذ وصولها إلى السلطة في العام 1963 رفعت شعار "تأمين رغيف الخبز"، لكن ذلك لم يتحقق حتى سقوط آخر حكومة للبعث، وبقيت الطوابير على الأفران مشهداً عالقاً في ذاكرة السوريين.
المفارقة أنه وبعد سقوط النظام بات الخبز متوفراً وبجودة أفضل، لكن سعره تضاعف عشر مرات، ما زاد من أعباء الأسر الفقيرة.
توفير الأمان وتحسين الواقع الاقتصادي للسوريين، هو العنوان العريض الذي يجب أن تتصدى له الحكومة، وهذا لن يكون إلا عبر حل مشكلة الكهرباء وتهيئة الظروف اللازمة لدوران عجلة الإنتاج.
خلق بيئة آمنة للاستثمار، هو المدخل الحقيقي لتوقع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وهذا يتطلب السعي لرفع العقوبات عن سوريا، وصدور حزمة متكاملة من التشريعات وتعزيز ثقافة القانون.
التركيز على التربية والتعليم كمدخل لبناء سوريا المستقبل، خصوصاً أن هذا القطاع تعرض للتخريب والتدمير، وأن هناك أجيالاً من السوريين قد حرمت من حقها في التعليم.
تعزيز دور "السلطة الرابعة" ليكون الإعلام رقيباً على عمل الحكومة، وأن يكون إعلام الرأي والرأي الآخر، وأن لا يقتصر أداؤه في كونه "إعلام السلطة" الساعي للترويج لسياساتها والتستر على أخطائها.
هل الحكومة ممثلة لجميع مكونات الشعب السوري..
جرى الترويج لمصطلح المكونات على أنها مكونات عرقية ودينية وطائفية وهذا غير صحيح، فكلمة "مكونات" يجب أن تعكس الواقع السياسي السوري والقوى الفاعلة فيه.
غياب العمل السياسي لعقود عدة، ووجود عدد من الأحزاب الشكلية المهترئة جعلت الحكومة الحالية تتعامل مع الواقع كما هو، وبات التمثيل على أساس مناطقي وطائفي وسوى ذلك، ريثما تعود الحياة السياسية إلى المجتمع السوري.
ضمت الحكومة ممثلين عن جميع مكونات الشعب السوري، عرباً وكرداً، دروزاً ومسيحيين وعلويين، فيها وزراء تولوا حقائب وزارية في عهد النظام البائد، ووزراء كانوا يشغلون مواقع إدارية خلال الفترة الماضية.
المشكلة تكمن في أن هؤلاء يحملون توجهاً سياسياً واحداً، أو على الأقل أنهم من المقربين إلى السلطة وممن يدورون في فلكها. وبالتالي، فإن الحديث عن المعارضة أمر غير وارد بكل تأكيد.
لهذا الأمر إيجابياته التي تجعل من حالة الانسجام بين أعضاء الحكومة أمراً شبه مؤكد، لكنها في الوقت نفسه تفقد الحكومة وجود من يصوب لها أخطاءها، أو يحميها من الوقوع فيها (المعارضة).
المهم في الأمر أن لا تجري "شيطنة المعارضة" وتخوين أي صوت فيها، وهذا يتطلب وعياً اجتماعياً غير متوفر حتى الآن للأسف، والدليل ما نراه من "تشبيح إلكتروني" يظهر جلياً في مواقع التواصل الاجتماعي، ويستهدف كل من لا يتوافق رأيه مع رأي الحكومة.
لم نكن نتوقع أن تأتي حكومة بأفضل من هذه المواصفات، وأعتقد أنها جاءت ملبّية لتطلعات المواطن السوري المدرك لطبيعة المرحلة وتحدياتها.
استمرار الحديث عن النظام السابق وجرائمه وأخطائه لم يعد ذا جدوى، إذا لم يكن الهدف منه الاستفادة من دروس الماضي وتجنب الوقوع فيها، وجعل المواطن يقارن بين ما كان وما تحقق اليوم في سوريا.
شهر العسل انتهى، وفرحة السوريين بإسقاط النظام السابق باتت من الماضي، خصوصاً أن الواقع الاقتصادي بات ضاغطاً، والوعود التي أخذتها الحكومة السابقة على عاتقها والمتعلقة بزيادة الرواتب 400% لم تتحقق.
مشكلات كبيرة تنتظر الحكومة الجديدة وعلى رأسها معالجة أوضاع الموظفين الذين تمت إقالتهم بشكل مخالف للقانون، ومعالجة قضية البطالة التي باتت "قنبلة موقوتة" لا أحد يدرك حجم تأثيراتها فيما لو انفجرت.
تأجيل زيارة وزيري داخلية كل من ألمانيا والنمسا التي كانت مقررة إلى سوريا، ودعوة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا رعاياها إلى "مغادرة سوريا بأي وسيلة ممكنة" تشي بخطر قادم، عندها قد تتغير جميع الترتيبات، وقد تؤدي إلى عرقلة الاستمرار في ترتيب "شكليات الحكم" في سوريا.
المشهد في سوريا لا يزال معقداً، والسياسي الناجح هو من يعظم من التهديدات ويتعامل معها بجدية وحزم منعاً لوقوعها، أما التهوين فقد يؤدي إلى نتائج لم يعد السوريون قادرين على مجرد تصور وقوعها.