الضحية المثالية
يحاولون فرض رواية الهزيمة على وعينا، لكننا نمتلك رواية النصر من تحرير الجنوب، إلى حرب تموز، ومعركة سيف القدس، وأولي البأس، حتى معجزة طوفان الأقصى.
-
في النصف الأول من القرن العشرين، شكّل يهود اوروبا الضحية المثالية.
أدّت الضحية المثالية دوراً مهماً عبر تاريخ المجازر والجرائم، التي ارتكبتها الدول والإمبراطوريات. ليس العدو، بالضرورة، هو الضحية المثالية، لأن الدور المَنوط بالضحية ليس مرتبطاً بالنصر أو الهزيمة، بل يتجاوزهما لتحقيق الأهداف البعيدة (الاستراتيجية) للمجزرة، سواء كانت جغرافية أو ديمغرافية أو سياسية. لذلك، يكون الضحايا المثاليون في العادة مجموعة من الأبرياء يمثلون قومية، أو ديناً، أو طائفة، وضعتهم ظروف الصراع في موقع الضحية المثالية لتحقيق هدف استراتيجي بعينه.
في القرن السادس عشر، وفي سياق الاكتشافات الجغرافية، وصل المستعمرون إلى الأراضي الجديدة في الأميركيتين، وأستراليا ونيوزلندا، فكانت شعوب تلك البلاد الضحية المثالية لانتقال الرأسمالية إلى مرحلة الكولونيالية، في حين كانت الاكتشافات داخل أفريقيا بداية لعصر العبودية، الذي سيشكل القاعدة الاقتصادية لانتقال الرأسمالية إلى شكلها الأكثر بشاعة على يد الولايات المتحدة الأميركية. تحت شعار ضحايا دينية تطهرية حملتها البروتستانتية والكالفينية، تمت إبادة تلك الشعوب، أو استعبادها وتحويلها إلى أقليات مهملة، لا تصلح إلا للحفلات الفولوكلورية، أو الروايات والأفلام السينمائية.
في النصف الأول من القرن العشرين، شكّل يهود اوروبا الضحية المثالية. الهدف كان انتقال الرأسمالية من المرحلة الكولونيالية إلى المرحلة الإمبريالية. كانت صورة اليهودي المربي، الذي لا يتورع عن إهراق دم المسيحي الطيب، كما رسمها شكسبير في مسرحية تاجر البندقية، تتطابق مع الرواية الدينية عن دور اليهود في صَلب السيد المسيح.
لم يشفع لليهود دورهم البارز في إنتاج النظام الرأسمالي، فذلك النظام يحتاج إلى ضحية، وهو لا يتردد عن أكل أبنائه. وبغضّ النظر عن عدد من قُتلوا في رواية "الهولوكوست"، فإن الدور المطلوب في هذه المذبحة تحقق، مع ملاحظة أن من قُتلوا كانوا من فقراء اليهود، أما الأغنياء فوجدوا طريقهم إلى لندن ونيويورك، ليصبحوا أباطرة المال والإعلام، ويؤدون دورهم في قتل ضحاياهم في الحقبة الرأسمالية الجديدة.
الضحية المثالية الجديدة كانت العرب الفلسطينيين. فرحيل الاستعمار المباشر عن المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخروج الاتحاد السوفياتي في موكب المنتصرين، وسعي العرب لإقامة شكل من أشكال الوحدة بينهم، كانت جميعاً عوامل سرّعت عملية إقامة كيان الاحتلال، وإلغاء الوجود الفلسطيني، إنسانياً وسياسياً، ابتداءً من أسطورة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" حتى الاتفاقيات الإبراهيمية، وما تخلل هذه السنوات من مجازر. استطاع الغرب، عبر إقامة كيان الاحتلال، التطهر من ذنوب 60 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية (40 مليون مدني و20 مليون عسكري، نصفهم من الاتحاد السوفياتي)، والسيطرة على الطرق والممرات المائية المهمة للتجارة العالمية، ونهب ثروات المنطقة، وخصوصاً النفط.
لم يكن العرب وحدهم الضحايا المثاليين لهذه المرحلة، فدفعت شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا أثماناً باهظة لتحررها، وخاضت حروباً أهلية بالنيابة عن المستعمرين، لكن ما يميز منطقتنا هو استمرار شعوبها في أداء دور الضحية لأكثر من قرن من الزمان، إذ لا تكاد تخلو لائحة المجازر الرأسمالية، في أي سنة من السنوات، من مجزرة في بلد عربي. إن كانت فلسطين تتصدر لائحة هذه المجازر، فإن أسماء، مثل العامرية وسبايكر في العراق، وصبرا وشاتيلا وقانا الأولى والثانية في لبنان، ومجازر دارفور والجنوب في السودان، والمجازر في ليبيا والجزائر، وفي سوريا، وخصوصاً ما يجري اليوم في الساحل، وأبشع المجازر في التاريخ البشري التي ارتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة، على مدى أكثر من عام، كل هذا يجعلنا، كأمة، نتصدر لائحة المجازر الرأسمالية في العدد، وفي رقم الضحايا، وفيما تركته في مجتمعاتنا من آثار عميقة وبعيدة المدى.
إن هذا التصميم الاستعماري على تقديمنا قرابين على المذبح الرأسمالي، يدفعنا إلى التساؤل: لماذا نحن؟
ترتبط الإجابة بعاملين. الأول أن موقعنا الجغرافي، وطبيعة الصراع الذي دار بين شعوبنا والمركز الرأسمالي على مدى السنوات الماضية، فرضا على بلادنا أنظمة سياسية تابعة بشكل عضوي للمشروع الاستعماري، أي أن بقاء هذه الأنظمة مرتبط باستمرار المشروع الرأسمالي ونجاحه. لذلك، لا تتوانى الطبقات الحاكمة عن التضحية بمصالح الشعوب، بل أحياناً التضحية بالشعوب نفسها في سبيل بقاء المشروع الاستعماري الذي يضمن بقاءها. هذا العامل يفسر الطائرات العربية التي قصفت العراق وليبيا واليمن وسوريا، والتحالفات التي زحفت على اليمن وسوريا وليبيا، واتفاقيات التطبيع مع العدو منذ كامب ديفيد حتى الاتفاقيات الإبراهيمية.
العامل الثاني أن شعوبنا، على رغم كل ما أصابها، لم تستسلم يوماً، وكانت في كل مرة قادرة على إطلاق مشروع مقاومة جديد. كثيرة هي شعوب العالم التي قاومت محتليها، نذكر بفخر الثورات في فيتنام، وكوبا، ونيكاراغوا، لكن في لائحة الثورات نبقى الأكثر مساهمةً، فلعل التاريخ لم يعرف يوماً لم يكن لأمتنا فيه حركة مقاومة ضد كل من حاول احتلال أرضنا ونهب خيراتنا. نجحنا وفشلنا، أثخن فينا العدو وهزمناه في مواقع متعددة، تنبّأ المحللون والمتخصصون بانكسار شوكتنا، لكننا لم نقبل "السلّة" يوماً، وكان لسان حال الأمة أمام كل معركة تُفرض علينا يهتف "هيهات منّا الذلّة".
يحاولون فرض رواية الهزيمة على وعينا، لكننا نمتلك رواية النصر من تحرير الجنوب، إلى حرب تموز، ومعركة سيف القدس، وأولي البأس، حتى معجزة طوفان الأقصى. دروب النصر نعرف مسالكها وتفاصيلها وأسماء أبطالها، ونحن مستعدون لدفع ثمن في كل زمان.