العدوان الأميركي على اليمن: بين الأهداف والنتائج

نجاح الهجمات الأميركية على اليمن سيكون مرتبطاً بشكل رئيسي بمواصلتها، ولأجل ذلك فإن فشل العدوان على اليمن بات بحكم المؤكّد على اعتبار أنّ استمراره غير ممكن.

  • الولايات المتحدة ستكون أمام مهمة إغلاق طرق الإمداد البحرية بوجه صنعاء.
    الولايات المتحدة ستكون أمام مهمة إغلاق طرق الإمداد البحرية بوجه صنعاء.

شكّل اليمن واحداً من أهم المحاور الرئيسية في الاستراتيجيات التي اعتمدتها الإدارات الأميركية الأخيرة، وإذا كانت الحرب على اليمن التي انطلقت في العام 2015 قد حظيت بدعم مطلق من إدارة ترامب خلال ولايته الأولى وبمشاركة مباشرة لسلاح الجو الأميركي، فإن إدارة الرئيس السابق جو بايدن عملت على إيقاف تلك الحرب وفرضت هدنة طويلة على حلفائها في التحالف الذي قادته السعودية بعد أن وصف بايدن تلك الحرب بالكارثة الاستراتيجية، ليعاود لاحقاً منذ أكتوبر 2023 وفي ظلّ معركة طوفان الأقصى إعطاء أوامره لتنفيذ ضربات جوية وبحرية على اليمن الذي تحوّل إلى إحدى أهم جبهات الإسناد لغزة وأكثرها فاعلية، والتي أدّت دوراً محورياً في صمود مقاومتها على الصعيدين العسكري والسياسي ..

واليوم مجدّداً وبعد أقلّ من شهرين على عودته إلى البيت الأبيض أعطى الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم السبت أوامره للبنتاغون لبدء الهجوم على اليمن بعد أسابيع قليلة من إعادة تصنيفه لحركة أنصار الله/الحوثيين كمنظّمة إرهابية، وهدّد ترامب باستخدام ما أسماه "القوة المميتة الساحقة" لتحقيق أهداف واشنطن، وقال مسؤول أميركي إن الضربات التي انطلقت يوم السبت لم تكن ضربة منفردة بل بداية لسلسلة من الضربات الأميركية المتواصلة ضدّ الحوثيين والتي من المتوقّع أن تستمر لأيام أو ربما حتى أسابيع..

بكلّ تأكيد فإنّ قرار ترامب بالهجوم على اليمن كما ذكرنا يأتي في سياق استراتيجيته في الشرق الأوسط وعلى الصعيد العالمي، ولا ينفصل عن المحاور الأخرى لتلك الاستراتيجية التي تشمل مخططات إدارته ذات الأبعاد الجيوسياسية والجيو ـــــ اقتصادية التي ترسم حدود العلاقات من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وصولاً لأوروبا، حيث تتشابك وتتضارب المصالح مع حلفاء وخصوم الولايات المتحدة على امتداد تلك الجغرافيا المترامية التي يحتل اليمن فيها موقع القلب ويتحكّم بأهمّ عقدة للممرات وسلاسل التوريد البحرية "الطاقوية والتجارية"، وبالتالي فإنه من البديهي أن يكون اليمن محطاً لقرارات العنجهية الترامبية التي تعتمد سياسة "صدمة القوة المفرطة" تلويحاً وتصريحاً لتحقيق مكاسبها أو تحقيق أهدافها ..

وانطلاقاً من التشابك والتضارب في المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة مع حلفائها وخصومها في ظلّ النهج الجديد التي تتّبعه إدارة الرئيس دونالد ترامب يمكن لنا قراءة الخلفيّات والأهداف التكتيكية والاستراتيجية للحرب الجديدة المعلنة على اليمن وفقاً للمحاور الآتية: 

أولاً؛ المحور الإسرائيلي: تنطلق إدارة ترامب التي تعتبر الأكثر التزاماً على الإطلاق في التاريخ الأميركي بأمن "إسرائيل" من مبدأ الانتقام من صنعاء التي كانت الأكثر جرأة وقدرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي على الاستمرار في المواجهة العسكرية مع هذا الكيان والتأثير عليه وتغيير معادلات الردع معه، ومن زاوية أخرى فقد تمكّنت صنعاء من فرض الحصار البحري عليه من الجنوب عبر البحر الأحمر، كما أنها تمتلك القدرة على تهديد ملاحته عبر المتوسط.

ثانياً؛ المحور الفلسطيني: تعتقد واشنطن أن صنعاء ومن خلال القوة التي تمتلكها والتي أعطتها هامش المناورة لفرض الحصار على الكيان الإسرائيلي ستشكّل عائقاً في وجه المحاولات الأميركية للضغط على الفلسطينيين ومقاومتهم، وستؤدّي إلى تقوية الموقف التفاوضي الفلسطيني والتمنّع عن تقديم التنازلات أو القبول بالشروط الأميركية الإسرائيلية. 

ثالثاً؛ محور غزة: لا تزال خطط ترامب لتهجير سكان غزة قائمة ويجري العمل عليها من خلال تشديد الحصار ومنع دخول المساعدات، ولا تزال خطط ترامب لتحويل قطاع غزة إلى منطقة استثمارات أميركية بعد تهجير سكانها قائمة، وترى واشنطن بأنّ صنعاء تشكّل خطراً على هذا المخطط من خلال مطالبتها برفع الحصار عن غزة كشرط لازم للسماح بمرور السفن الإسرائيلية عبر باب المندب والبحر الأحمر، وبالتالي فإنّ واشنطن ترى في رفع الحصار عن غزة خطراً على مشروع ترامب في القطاع وخطته لتهجير سكانه .

 رابعاً؛ محور الممر الهندي ـــــ الأوروبي: ما زالت واشنطن وشركاؤها في هذا المشروع ينظرون إليه كواحد من أهم المشاريع الجيو ـــــ استراتيجية القادرة على تغيير المعادلات الدولية، وتعتقد واشنطن بأنّ الظروف الحالية أكثر ملاءمة لإعادة تعويمه، ومن غير المستبعد أنّ واشنطن تسعى لخلق حالة من التوترات الأمنية طويلة الأجل عبر البحر الأحمر من خلال الحرب على اليمن بهدف طرح المسوّغات اللازمة لأهمية المشروع كممر بديل لا بدّ من التسريع في إنجازه لتأمين سلاسل التوريد بين جنوب شرق آسيا وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط من خلال البوابة الإسرائيلية، وهو ما ألمح إليه ترامب بقوله مخاطباً صنعاء "لا تهدّدوا الشعب الأميركي أو رئيسه أو ممرات الشحن العالمية..".

خامساً؛ المحور الإيراني: وهذا المحور ظهر جلياً في التصريحات الواضحة للمسؤولين الأميركيين مع انطلاق الهجوم على اليمن، وعلى رأسهم ترامب الذي قال بأن الضربات ضدّ الحوثيين هي أيضاً رسالة إلى إيران، وطالبها بوقف دعم الحوثيين فوراً، فيما ذهب مستشار الأمن القومي للتلويح بخيار ضرب إيران. وفي هذا الإطار فإنه من المهم الإشارة إلى أنّ الهجوم على اليمن جاء بعد إعلان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان رفض بلاده للتفاوض مع واشنطن تحت التهديد على الرغم من العقوبات التي فرضتها واشنطن على تجارة النفط الإيرانية، وهو ما أثار غضب واشنطن التي تعتقد أنّ الحرب على اليمن ستزيد من الضغوط على طهران. 

 سادساً؛ المحور السعودي ـــــ الخليجي: حيث يسعى ترامب الذي يتحضّر لزيارة السعودية لحمل ورقة رابحة بيده إلى الرياض التي وافقت على استثمارات في الداخل الأميركي بقيمة 600 مليار دولار، فيما يسعى ترامب لرفع المبلغ إلى تريليون دولار، ومن جانب آخر فإنّ واشنطن تعتقد بأن إشعال حرب اليمن مجدداً سيعيد الاصطفافات الحادة في الشرق الأوسط ويسهم في توتير العلاقات السعودية الإيرانية، والخليجية الإيرانية مجدّداً، ويدفع بدول الخليج وعلى الأخصّ الرياض إلى المضي قدماً في السلام مع الكيان الإسرائيلي .

 سابعاً؛ المحور الصيني: على عكس إدارة بايدن فإن إدارة ترامب تعتقد أنه من الضروري اللجوء إلى إجراءات شديدة مع الصين، وبدا ذلك واضحاً من خلال العقوبات التجارية والرسوم الجمركية التي فرضتها على الشركات والبضائع الصينية، وبالتالي فإنها ترى بأنّ التوتر في منطقة باب المندب والبحر الأحمر سيؤثّر سلباً على حركة الملاحة الصينية باتجاه دول حوض المتوسط ودول الاتحاد الأوروبي، ويمنح واشنطن ثلاثة مكاسب على الأقل "أوّلها الضغط على الصين في أية مفاوضات مقبلة، وخاصة أنّ ترامب أعلن أنه من الممكن أن يقوم بزيارة لبكين في الشهر المقبل، وثانيها متعلّق بدفع دول الخليج لتخفيف اعتمادها على الصين في إطار انفتاحها وتنويع شراكاتها، وثالثها متعلّق بالتحكّم بالقرار الأوروبي وإعادة ضبطه لصالح واشنطن من خلال تهديد تجارته مع الصين".

لقد بات معلوماً بأنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتبع سياسة الصدمة في قراراته ومواقفه، وتشتمل التهديد باستخدام القوة القصوى بالتوازي مع طرح الحد الأعلى من المطالب والمكاسب، لكنه لا يلبث أن يتراجع عن مواقفه بمجرّد الحصول على نسبة معقولة من تلك المطالب أو المكاسب، أو لمجرّد تمريره لمرحلة آنية كان يحتاج معها لإظهار تلك السياسة لغايات قد لا تكون ذات صلة مباشرة، وفيما يخصّ إعلانه الحرب على اليمن فإنّ مواقف ترامب لا تخلو من التكتيك ذاته، وهو ما ألمح إليه عندما اختتم تهديده بعبارة "إذا لم تتوقّف هجمات الحوثيين فستمطر عليكم جهنم كما لم تروا من قبل"، كما هو معلوم بأن اليمن لم يكن قد بدأ بالهجمات بالأساس، وعليه فإن ترامب الذي يدرك جيداً مدى قدرة الحوثيين على المواجهة والصمود وتغيير المعادلات في الإقليم قد ترك الباب مفتوحاً للسياسة من أجل التراجع والانسحاب ..

ومن جانب آخر فإن إدارة ترامب تدرك جيداً مدى المرونة والقدرة على المناورة التي تتمتع بها صنعاء من الناحية العسكرية، وهو ما أثبتته سنوات المواجهة العشر الفائتة، وأكّده البيان الأول للمتحدّث باسم القوات المسلحة اليمنية العميد يحيى سريع حيث أعلن مهاجمة مجموعة حاملة الطائرات الأميركية "يو أس أس ترومان" في شمال البحر الأحمر، كما أن واشنطن وضعت قواعدها في المنطقة في حالة تأهّب قصوى تحسّباً لهجمات محتملة بالصواريخ والمسيّرات اليمنية المتطورة والتي أثبتت قدرتها على الوصول لأهدافها ..

وفي جانب ثالث فإنّ على واشنطن أن تدرك جيداً بأن المواجهة لا تقتصر على صنعاء أو على حليفها الإيراني الداعم لها، بل إن واشنطن لطالما تحدّثت في تقارير استخباراتية عن شبكات توريد من الصين وروسيا لصنعاء، وهو ما يعني حكماً بأن إدارة ترامب ستكون بحاجة لتوظيف موارد أكبر لهذه الحرب في الوقت الذي تقدّم نفسها أمام الشعب الأميركي كإدارة ساعية لتقليص النفقات والحفاظ على أموال دافعي الضرائب، هذا بالإضافة إلى أنّ خصومها الثلاثة "الصين وروسيا وإيران" سيجدون أنفسهم أمام فرصة لتوريط واشنطن على الصعيد الجيوسياسي..

وعلى الصعيد اللوجستي فإن الولايات المتحدة ستكون أمام مهمة إغلاق طرق الإمداد البحرية بوجه صنعاء، وخاصة من جهة بحر العرب ما يعني الحاجة لإشراك دول خليجية في ذلك، وهو أمر غير مضمون نظراً لما يمكن أن يتسبّب به لجهة توسيع نطاق الحرب لتطال دول المنطقة وحتى القواعد الأميركية فيها، ويسهم في تعقيد المواجهة لصالح خصوم واشنطن وإفشال أهدافها ..

في الختام؛ واستناداً لرأي العديد من الخبراء العسكريين، فإنّ نجاح الهجمات الأميركية على اليمن سيكون مرتبطاً بشكل رئيسي بمواصلتها، ولأجل ذلك فإن فشل العدوان على اليمن بات بحكم المؤكّد على اعتبار أنّ استمراره غير ممكن لما سيخلقه من نتائج جيوسياسية واستراتيجية لا يمكن التنبؤ بحجمها وامتداداتها وتأثيرها، بل إنه قد يعيد خلط الأوراق انطلاقاً من الإقليم وامتداداً لساحات أخرى من الصراع العالمي، وينتهي بالإطاحة بالمكاسب التي حقّقتها واشنطن مؤخراً، وعليه فإنّ أقصى ما يمكن أن تحقّقه واشنطن من تلك الهجمات سيندرج في إطار التكتيك المرحلي، ومن غير المرجّح أن يأخذ بعداً استراتيجياً دائماً.