العلاقات الصينية الهندية... تايلند مستفيدة!
متابعة تطور العلاقات الصينية التايلاندية تكشف عن أبعاد متشابكة. فهي تعكس إعادة رسم لخريطة النفوذ في جنوب شرق آسيا، حيث لم تعد المنافسة محصورة بين واشنطن وبكين.
-
تايلند محور اهتمام القوى الكبرى.
في خبر يدعو إلى الاستغراب، أُعلن عن عزم الصين إجراء مناورات عسكرية جوية مع حليف تقليدي للولايات المتحدة وشبه عضو في حلف شمال الأطلسي الناتو وهو تايلند. وتمثل تايلند واحدة من الدول المحورية في جنوب شرق آسيا بحكم موقعها الجغرافي الذي يتوسط شبه الجزيرة الهندية–الصينية، وحدودها البحرية الممتدة على خليج تايلند وبحر أندامان، وقربها من الممرات البحرية الحيوية التي تربط المحيط الهادئ بالمحيط الهندي. هذا الموقع جعلها عبر التاريخ نقطة تقاطع للتجارة والثقافة، وفي الوقت نفسه ساحة تنافس بين القوى الكبرى والإقليمية. ومع صعود الصين كقوة عالمية، وتعزيز الولايات المتحدة لتحالفاتها في المنطقة، وسعي الهند إلى توسيع مجالها الحيوي في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا، برزت تايلند لاعباً أساسياً في حسابات التوازنات الجيوسياسية الجديدة.
خلال العقود الأخيرة، حافظت بانكوك على سياسة خارجية مرنة تقوم على مبدأ تنويع الشراكات وتجنب الانخراط الكامل في أي محور من المحاور المتنافسة. ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة تكشف عن تقارب متزايد بين تايلاند والصين، خصوصاً في المجالين العسكري والاقتصادي، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى قدرة تايلاند على التوفيق بين تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة، ومصالحها المتنامية مع الصين، علماً أن ما يدفع تايلند إلى التقارب مع الصين هو خوفها من النفوذ المتصاعد للهند في جنوب شرق آسيا.
الخلفية التاريخية للعلاقات الصينية–التايلندية
العلاقات بين الصين وتايلند قديمة جداً وتمتد جذورها إلى قرون طويلة خلت. فقد استقر المهاجرون الصينيون في أراضي مملكة سيام وهو الاسم القديم لتايلند منذ القرن الرابع عشر ميلادي، وأسهموا في التجارة البحرية التي ربطت الصين بجنوب شرق آسيا. مع مرور الوقت، أصبح المهاجرون الصينيون جزءاً رئيسياً من النسيج الاقتصادي والاجتماعي لتايلند.
خلال القرن العشرين، ومع تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، تبنّت تايلند موقفاً حذراً من بكين بسبب انحياز بانكوك إلى المعسكر الغربي خلال الحرب الباردة. فقد كانت بانكوك حليفاً مقرباً من الولايات المتحدة، واستضافت قواعد عسكرية أميركية استخدمتها القوات الأميركية ضد قوات الفييتكونغ خلال حرب فيتنام. لكن مع انفتاح الصين على العالم في سبعينيات القرن الماضي، بدأت العلاقات الصينية التايلندية بالتحسن وصولاً إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين في العام 1975.
بعد ذلك تطورت العلاقات بين البلدين بشكل مطّرد، خصوصاً في مجالات التجارة والاستثمار. ومع صعود الصين كقوة اقتصادية وجيوسياسية عالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبحت بكين الشريك التجاري الأول لتايلند. هذا التحول الاقتصادي أسّس لمرحلة جديدة من التعاون، تجاوزت حدود الاقتصاد لتصل إلى المجالين الأمني والعسكري.
تايلند محور اهتمام القوى الكبرى
خلال العقدين الماضيين باتت تايلند محور التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين والهند.
فبالنسبة للولايات المتحدة فهي تعتبر تايلند حليفاً رئيسياً خصوصاً منذ عام 2003، وقد تعاون البلدان بشكل وثيق في مجالات الدفاع ومكافحة الإرهاب.
كما تشارك تايلند بانتظام في المناورات المشتركة مع الولايات المتحدة مثل "كوبرا غولد"، وهي أكبر مناورات عسكرية متعددة الجنسيات في آسيا. غير أن اعتماد بانكوك المفرط على واشنطن جعلها عرضة لضغوط سياسية، خاصة خلال فترات الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد، ما دفعها إلى البحث عن بدائل استراتيجية تمثلت بالتوجه لإ
قامة علاقات وثيقة مع الصين التي تعتمد سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
أما بالنسبة للصين، ومنذ إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" عام 2013، فقد أولت بكين أهمية خاصة لتايلند بوصفها حلقة وصل بين جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي. وقد دفع الاهتمام بالاستثمار في البنية التحتية، خصوصاً في السكك الحديد والطاقة، الصين، لأن تصبح شريكاً اقتصادياً لا غنى عنه لتايلند. ومع تعمق هذا الارتباط، اتجهت بانكوك إلى تعزيز التعاون العسكري مع بكين، ما أثار قلق واشنطن.
بالنسبة للهند فإن تايلند باتت تشكل محط اهتمام منذ اعتماد نيودلهي لسياسة التوجه شرقاً والتي تنوي من خلالها توسيع دائرة نفوذها في جنوب شرق آسيا وتعزيز التعاون البحري خصوصاً مع دول منطقة خليج البنغال.
وبالنسبة لتايلند، فإن يشكل خطراً جيوسياسياً حيث إنها ستجد نفسها محصورة بين الصين في الشرق والهند من الغرب.
العلاقة مع الصين لمواجهة الهند
تهتم بانكوك بالتقارب مع الصين لأنها تعتبر أن الهند تشكل خطراً اكبر عليها، وهذا الذي دفعها لتعميق علاقاتها مع بكين. اما أحد المؤشرات البارزة على تقارب الصين وتايلند فيتمثل في المناورات العسكرية المشتركة الدورية بينهما. ففي عام 2025، نظمت الدولتان مناورات جوية بعنوان "فالكون سترايك". واللافت أن هذه المناورات جاءت مباشرة بعد مشاركة تايلند في تدريبات عسكرية مع الولايات المتحدة وأستراليا. وخلال العام الفائت اشترت تايلند من الصين معدات عسكرية متطورة، بما في ذلك غواصات وفرقاطات، في خطوة عدت تحولاً نوعياً عن اعتمادها التقليدي على الأسلحة الأميركية.
هذا التقارب العسكري يتيح لبكين موطئ قدم أمني في منطقة كانت تُعدّ تاريخياً ضمن النفوذ الأميركي. من جهة أخرى، فإن هذا التعاون لا يعني قطيعة مع واشنطن. فتايلند لا تزال تشارك في "كوبرا غولد" وتستضيف تدريبات مشتركة مع قوات أميركية. لكن التوازن بين المحورين بات أكثر دقة، إذ تحاول بانكوك الاستفادة من مزايا التعاون مع الصين دون التضحية بمظلة التحالف مع الولايات المتحدة.
مشروع قناة كرا الصينية
تعد فكرة شق قناة عبر برزخ كرا في جنوب تايلند لربط خليج تايلند ببحر أندامان أحد أهم المشاريع الاستراتيجية المطروحة منذ عقود والتي يمكن أن تدعم الأهمية الجيواسيسية لتايلند وتقدم أفضلية جيوسياسية بحرية للصين في إطار سعيها للوصول إلى طرق الملاحة البحرية في المحيط الهندي. فهذه القناة تقدم بديلاً عن مضيق ملقا حيث يمر حاليًا ثلث التجارة العالمية، علماً أن المضيق خاضع لسيطرة إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة التي ترتبط بعلاقات تبعية مع واشنطن. وإذا قضي لمشروع قناة كرا النجاح فإن جزءاً كبيراً من التجارة التي تمر حالياً في مضيق ملقا سينتقل إلى قناة را التي يتقدم بديلاً اكثر فاعلية وأقل كلفة. وبهذا فإن جزءاً كبيراً من هذه التجارة سيتحول إلى الأراضي التايلندية، ما يمنح بانكوك موقعاً استراتيجياً جديداً.
بالنسبة للصين فإن قناة كرا ستقدم منفذاً مباشراً إلى المحيط الهندي. فالصين تعتمد بشكل كبير على مضيق ملقا لاستيراد الطاقة من الشرق الأوسط وأفريقيا. وقناة كرا ستمنحها منفذاً بديلاً أكثر أماناً وأقصر نحو المحيط الهندي. وبالنسبة لتايلاند، هذا المشروع يعني تحوّلها إلى عقدة لوجستية عالمية، ما يعزز اقتصادها ويمنحها أوراق قوة في مواجهة الهند والصين والولايات المتحدة على حد سواء. وتنظر الولايات المتحدة والهند بعين الريبة إلى مشروع قناة كرا الذي من شأنه أن يعزز فرص وصول الصين إلى المحيط الهندي وكسر الهيمنة الأميركية الهندية عليه.
إن متابعة تطور العلاقات الصينية التايلندية تكشف عن أبعاد متشابكة. فهي تعكس إعادة رسم لخريطة النفوذ في جنوب شرق آسيا، حيث لم تعد المنافسة محصورة بين واشنطن وبكين، بل دخلت الهند لاعباً إضافياً.
بالنسبة لتايلند، فإن التحدي يكمن في الحفاظ على توازن دقيق بين القوى الثلاث، مع استغلال موقعها الجغرافي ومشاريعها الاستراتيجية مثل قناة كرا لتعزيز مكانتها الدولية.
ويمكن القول إن مستقبل هذه العلاقات سيعتمد على عاملين رئيسيين أولهما مدى تصاعد التوتر الأميركي–الصيني، وإذا ما كانت بانكوك ستضطر للاختيار بينهما، أما ثانيهما فيكمن في قدرة تايلند على تحويل مشاريعها الكبرى إلى واقع، بما يمنحها استقلالية استراتيجية أكبر بين القوى الكبرى المتنافسة. وتسعى تايلند اليوم إلى أن تكون جسر تواصل بين القوى الكبرى بدل أن تكون ساحة صراع بينها.