بريطانيا تُطلّ برأسها عبر المجتمع المدني من أجل إرساء "السلام الإبراهيمي" في الشرق الأوسط
تخشى المنظمة البريطانية من أن برامج المجتمع المدني تسعى، عبر دعوتها إلى التطبيع، لنزع الشرعية عن تطبيق القانون الدولي في منح الفلسطينيين أصحاب الأرض حق تقرير المصير.
لبّى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، مطلب مجموعة الضغط الصهيونية في حزب العمال الحاكم بشأن دعم الصندوق الدولي للسلام الإسرائيلي - الفلسطيني، معلناً، خلال مأدبة عشاء لمجموعة أصدقاء "إسرائيل" في حزب العمال، في كانون الأول/ديسمبر، من العام الماضي، عزم وزير خارجيته، ديفيد لامي، عقد "اجتماع افتتاحي في لندن لدعم المجتمع المدني في المنطقة، وجزء من هذا العمل هدفه التفاوض على حل الدولتين".
يُعَدّ التزام ستارمر إيلاء اهتمام أكبر بالصندوق، أحد أهم المطالب التي وضعتها مجموعة أصدقاء "إسرائيل" في حزب العمال، ضمن أجندتها الصادرة في أيار/مايو، من العام الماضي، والتي ربطت عملية السلام المزعومة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بدور المجتمع المدني. وبذلك، تكون المجموعة حققت هدفها، المتمثل بإقناع الحكومة بتبنّي فكرة الاستثمار في المجتمع المدني، كونه، وفق رؤيتها، "في صميم أي استراتيجية دبلوماسية تتعلق بالوضع النهائي".
وحددت المجموعة الموالية لـ "إسرائيل" لوزير الخارجية البريطاني مهلة مئة يوم من وصوله إلى السلطة لعقد مؤتمر، يهدف إلى "رسم خريطة وتنسيق الدعم للمجتمع المدني في المنطقة كجزء من استعادة الأفق الدبلوماسي للإسرائيليين والفلسطينيين".
ويروّج أصدقاء "إسرائيل" في بريطانيا إطارَ عمل يسعى لتقديم مزيد من الدعم، سياسياً ومالياً، إلى الجمعيات العاملة في إطار المجتمع المدني لخلق انسجام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، انطلاقاً من أن المجتمع المدني هو الرافعة الأساسية لنزع فتيل العنف والتخلي عن المقاومة لتحقيق السلام.
خطوة ستارمر بشأن دعم الصندوق أعطت إشارة البدء في تنفيذ أهداف عمل الصندوق الدولي. وتجلّى هذا الهدف في تصريح وزير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية، هاميش فالكونر، الذي قال، في رده على أحد النواب بشأن عمل الصندوق الدولي للسلام: "أثار وزير الخارجية البريطاني قضية تأمين السلام في المدى الطويل، في جميع اجتماعاته بنظرائه في مختلف أنحاء المنطقة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا. وستؤدي المملكة المتحدة دورها الدبلوماسي الكامل في إنهاء هذا الصراع، وخلق دولة إسرائيلية آمنة، إلى جانب دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة".
لم يُحدد بعدُ موعد انعقاد المؤتمر الافتتاحي للصندوق الدولي في لندن، لكن يجري الحديث عن إمكان انعقاده في بداية العام الحالي، بمشاركة ممثلين عن مجموعة الدول السبع الكبرى، مع احتمال حضور بعض الدول العربية، ولاسيما الخليجية.
وتسعى شبكة التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط (ALLMEP) لإقناع رئيس الوزراء الكندي بإدراج دعم الصندوق الدولي للسلام ضمن أجندة مؤتمر الدول السبع خلال العام الحالي.
توضيح الهدف ودور التحالف
تُعَدّ منظمة التحالف من أجل السلام الأداة الرئيسة في تحقيق السلام المجتمعي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتحظى بدعم وتشجيع من عدد كبير من المنظمات الموالية لـ"إسرائيل" في مختلف دول العالم. وبين هذه المنظمات: مجموعة أصدقاء "إسرائيل" في الحزبين الرئيسين في بريطانيا، بالإضافة إلى دعم لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، ومنظمة جيه ستريت (J Street)، واللجنة اليهودية الأميركية، وصندوق "إسرائيل" الجديد، فضلاً عن منظمات كنسية تدعو إلى السلام في الشرق الأوسط.
وأشادت الجمعيات المنضوية ضمن إطار الصندوق الدولي للسلام بخطوة رئيس الوزراء البريطاني، وهو ما أكده جون ليندون، المدير التنفيذي للتحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط، الذي وصف القرار البريطاني بأنه "تحول كبير في السياسة الخارجية، ومبادرة دولية قد تضخ قدراً كبيراً من التمويل لدعم بناء السلام والتنمية الاقتصادية بين الإسرائيليين والفلسطينيين".
الدور البريطاني والدعم الدولي
صحيح أن الولايات المتحدة كانت الدولة الأولى التي تتبنى فكرة الصندوق الدولي، من خلال تشريع قانون الشراكة من أجل السلام في الشرق الأوسط (MEPPA)، عام 2020، والذي خُصص له 250 مليون دولار على مدى خمسة أعوام، إلا أن بريطانيا كانت الدولة الأولى التي تؤيد هذا المفهوم رسمياً منذ عام 2018، ليصبح التزاماً سياسياً للأحزاب الرئيسة، ولاسيما حزبا العمال والمحافظين.
ويراهن أصدقاء "إسرائيل" على انخراط الولايات المتحدة والدول العربية، ولاسيما الخليجية، إضافة إلى التجربة البريطانية، في تحقيق أهداف الصندوق الدولي. وعلى الرغم من إدراكهم المعوّقات السياسية والمجتمعية التي خلفتها الحروب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة، فإنهم يرون أن هذه الأحداث قد تتيح فرصة لتحريك عجلة بناء الأواصر المجتمعية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
استراتيجية جديدة وتحديات "السلام"
وتستشعر الدول الداعمة لمشروع المجتمع المدني الخطر، في ظل استطلاعات الرأي التي أجراها تحالف السلام في الشرق الأوسط عام 2023، وأشارت إلى أن 74% من الفلسطينيين و80% من الإسرائيليين يرون أن "الجانب الآخر لا يفهم سوى لغة القوة".
وترى الدول الداعمة للصندوق أن في إمكانها الاستفادة من التجربة الآيرلندية، التي ساهمت في نزع فتيل العنف بين الكاثوليك والبروتستانت، عقب توقيع "اتفاقية الجمعة العظيمة".
لذلك، تخطط مجموعة أصدقاء "إسرائيل" أن تعطي الأولوية لإشراك الشبان الإسرائيليين والفلسطينيين في عملية السلام المجتمعي، مؤكدة أن تراجع فرص السلام في الشرق الأوسط يرجع إلى عدم إعطاء المجتمع المدني الاهتمام الكافي. وترى أن بريطانيا يمكن أن تصبح لاعباً أساسياً في المنطقة، إذا استثمرت في المجتمع المدني بالصورة الصحيحة، مستفيدة من تاريخها في استخدام القوة الناعمة على المستوى الدولي.
ومع ذلك، يشير اللوبي الصهيوني في بريطانيا إلى أن الولايات المتحدة ستستمر في الهيمنة على مفاوضات الوضع النهائي، بينما ستؤدي دول الخليج دوراً كبيراً في إعادة إعمار غزة، وسيظل الاتحاد الأوروبي الممول الأكبر للسلطة الفلسطينية. وعلى رغم هذا التوزيع للأدوار، فإن اللوبي الصهيوني في بريطانيا يعتقد ضرورة تركيز بريطانيا على المجتمع المدني، كونه شرطاً أساسياً لأي جهد دبلوماسي ناجح.
ويراهن أصدقاء "إسرائيل" على الاندفاعة الأميركية في انخراطها في عملية السلام المجتمعي ومشاركة الدول العربية، ولاسيما الخليجية منها، فضلاً عن التجربة البريطانية والدول الأوروبية الأخرى لتحقيق اهداف الصندوق الدولي للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وتعتقد أن تراجع فرص السلام في الشرق الأوسط مرده عدمُ إعطاء موضوع المجتمع المدني الأهمية القصوى المطلوبة، بحيث لم يتم الاستثمار فيه بالصورة الصحيحة، وأقنعت مجموعة أصدقاء "إسرائيل" القيادة الحالية لحزب العمال بأن تجعل قضية المجتمع المدني أولوية خاصة بها، في إطار عمل المملكة المتحدة في موقع الصوت الرائد والمنظم والمهندس للمجتمع المدني في المنطقة، وبأن تعمل على وضع هذه الأجندة في صميم أي عملية دبلوماسية أوسع نطاقاً، بحيث تعمل على صياغتها، جنباً إلى جنب مع أقرب حلفائها.
كما تولي الدول الأوروبية بصورة عامة، وبريطانيا بصورة خاصة، هذا الصندوق اهتماماً، ربما أكثر من غيرها، بسبب ما له من دور مستقبلي في تهدئة الشارع البريطاني الذي برز بصورة لافتة في تأييده عدالة القضية الفلسطينية، وفي ارتفاع حالة الاحتقان داخل المجتمعات اليهودية والمسلمة في بريطانيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تأجيج معاداة السامية وكراهية الإسلام.
ويولي اللوبي الصهيوني اهتماماً بالغاً بأهداف الصندوق الدولي للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي يسعى لتغير الخطاب بين الطرفين، والتخلي عن العنف والمقاومة، وتحقيق الاستقرار في المنطقة، من أجل توفير الأمن لجلب الاستثمار إلى المنطقة، والاستفادة من خيراتها.
وتعمل منظمة تحالف من اجل للسلام في الشرق الأوسط على إجراء مصالحة مجتمعية من خلال برامج التعليم المشترك والأنشطة الثقافة والحد من البطالة وتحسين الظروف المعيشية، فضلاً عن نبذ الكراهية وبناء مستقبل مشترك وإنشاء برامج تدريبية تهدف إلى تعزيز دور الشبان كقادة لمجتمعاتهم.
فالسلام المجتمعي يسعى لانصهار المجتمع الفلسطيني في بيئة التطبيع مع فكرة التسليم بوجود "إسرائيل"، مستخدمة في تطويع المجتمع للسلام إغراءات تقدمها الشبكة الدولية للسلام من خلال توفير فرص عمل وخلق قادة مجتمع جدد، تكون أولويتهم تحسين الأوضاع المعيشية ضمن الأطر المسموح بها والتخلي عن المقاومة أو أعمال العنف ضد الاحتلال لإسرائيلي.
ان إحلال السلام الإبراهيمي، عبر استنساخ النموذج الآيرلندي في فلسطين المحتلة، يبدو غير واقعي بسبب حسابات كثيرة، منها، كما تقول منظمة حملة التضامن مع فلسطين البريطانية، "إحياء نموذج فاشل وتعزيز لفكرة في انعدم التوازن في القوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين".
وتضيف أن مبادرات المجتمع المدني، أو ما يسمى برامج من شعب إلى شعب، كانت قدمت في الأصل كونها الركيزة الأساسية لعملية السلام في أوسلو.
وشرحت المنظمة البريطانية شرحاً كافياً، في دراسة عميقة، المجتمع المدني، مبينة أسباب الفشل، ومؤكدة أن نموذج المجتمع المدني كان أُنشئ في خمسينيات القرن الماضي، وصُمم لمعالجة التحيز المتبادل بين المجتمعات، ولا يبدو أنه قابل للتطبيق في فلسطين المحتلة بسبب الاحتلال العسكري الإسرائيلي، الذي يساهم في تهجير الفلسطينيين وخلق حالة العنف البنيوي ضد الفلسطينيين.
وتخشى المنظمة البريطانية من أن برامج المجتمع المدني، عبر دعوتها إلى التطبيع، تسعى لنزع الشرعية عن تطبيق القانون الدولي في منح الفلسطينيين أصحاب الأرض حق تقرير المصير، واستخدام ما نصت عليه القوانين الدولية في استخدام كل الوسائل المشروعة لمقاومة الاحتلال وسياسات الفصل العنصري.
لقد أثبتت التجارب السابقة فشل هذه النماذج في تحقيق السلام الحقيقي، ولاسيما في آيرلندا الشمالية، التي أصبحت فكرة الانفصال عن المملكة المتحدة بعد مرور عقود من الزمن تراود الآيرلنديين، فضلاً عن فشلها في تحقيق التعايش الحقيقي بين الأطراف المتنازعة على السلطة.
إن نموذج المجتمع المدني، في رأي المراقبين، سيكون قاصراً عن ردع الاحتلال الإسرائيلي عن انتهاكه القوانين، ولاسيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان.