بيت حانون تضع بصمتها في لقاء نتنياهو ترامب

بصمة بيت حانون الفارقة علامة إنتاج حصرية، على مفاصل تحولات الحرب، ماذا تعني بالعرف العسكري وبأصدائها السياسية؟

0:00
  • بصمة بيت حانون الفارقة علامة إنتاج حصرية.
    بصمة بيت حانون الفارقة علامة إنتاج حصرية.

بلدة صغيرة وادعة تقف شامخة فوق ركام أطلالها، إنها بيت حانون وهي تعاند مستوطنة نتساريم على مسافة 3 كم، بعد أن غزتها في عقر مقر شرطتها في السابع من أكتوبر، وتلاطم جنازير دباباتها منذ 640 يوماً ساعة بساعة، ليس ثمة رقم محدد إسرائيلياً في عدد المرات التي اجتاحتها العمليات الإسرائيلية، والسبب أنها معبر كل العمليات لمعظم شمال غزة الذي قيل إن "الجيش" الإسرائيلي فكك فيه كل التشكيلات العسكرية، فإذا بالمشهد يتجاوز الأسطوري، وهذه التشكيلات تقاتل بكفاءة تجاوزت ما فعلته في مواجهة سيوف هرتسي هليفي الحديدية في أوج جنونها الناري الثأري، لتتحول عربات جدعون إيال زامير بعد استئناف الحرب وسقوط هيئة أركان "الجيش" السابقة، إلى توابيت متنقلة بفعل حجارة داوود الفلسطينية، كيف يحصل ذلك؟

وسط كمائن خانيونس في الجنوب الشرقي من القطاع، ظلت الأحداث الأمنية الصعبة تتوالى، وفق التعبير الإسرائيلي وهزيع مواقع تواصل المستوطنين الإلكترونية في ظل فرض الرقابة العسكرية، نهضت الشجاعية في الشمال وقدمت فلماً في (الأكشن) مكتمل الأركان، ساحة معركة مصورة أروت فيها سرايا القدس ظمأ الإعلام المقاوم وهو يعرض تنوعاً في الأدوات على امتداد الزمان، بين عبوات وقذائف ورصاص، عرقلت عمليات الإنقاذ لساعات طويلة، ما جعل الحدث معركة وليس مجرد كمين نوعي.

المسافة بين بيت حانون وأكبر مستوطنة إسرائيلية، تعادل المسافة المفترضة بين النقلات النوعية الأخيرة في تطور أداء المقاومة، كمائن صارت معارك مع تفوق ناري نسبي لساعات، على الرغم من البون الشاسع بين القدرات النارية الأصلية لكل طرف، ما يعني أن المسافة في نقلة قادمة نحو أسر المزيد من جنود الاحتلال، صار أمراً مرتفع الاحتمال كما توعّد أبو عبيدة صادقاً، إلا إذا نزل نتنياهو عن شجرة غروره وأصغى بعناية لرئيس أركان جيشه، الذي غيّرته ميادين غزة الغارقة بدماء أطفالها ونسوتها وبعض رجالها، ومعهم جنود كتيبة نتساح في لواء كفير.

معركة مستمرة بين كتيبة نتساح وكتيبة بيت حانون، ظهر بعض فصولها في الكمين النوعي الذي سبق الهدنة في غزة في شهر كانون الثاني الماضي، حيث سقط جنود هذه الكتيبة بين قتيل وجريح قبل دخول زمن الهدنة بزمن يسير، ما جعلها بمنزلة ضربة المنتصر الذي وجّه الصفعة الأخيرة، وقد حملت في ثناياها إهانة جديدة للجيش الذي لا يحسن سوى قتل النساء والأطفال، وإن نجحت منظومته الأمنية بدعم أميركي وغربي في توجيه بعض الضربات الأمنية والاغتيالات النوعية.

ولكتيبة نتساح خصوصية سياسية دينية في معترك الحرب على غزة، فهي وحدة عسكرية خاصة وأول كتيبة قتالية "حريدية"، تأسست عام 1999 على يد الجنرال يهودا دوفدفاني بدعم من مجموعة من الحاخامات، بهدف دمج شباب هذه الطائفة في "الجيش" والمجتمع الإسرائيلي، من دون المساس بتقاليدهم الدينية، وتتكون الكتيبة من عناصر يمينية متطرفة من الحريديم و"شبيبة التلال"، وقد تنقلت أثناء تأديتها مهامها العسكرية بين الضفة الغربية والجبهة الشمالية في الجولان، ومنذ مطلع العام الماضي تشارك في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتعتبر الوحدة الأشد بطشاً ضمن دائرة الوحدات العسكرية الإسرائيلية في تعاملها مع المدنيين الفلسطينيين، وثبت تورطها بجرائم حرب.

أن تتلقى كتيبة نتساح الضربة الأخيرة دوماً قبل الهدنة حيث مساحة الانتقام تنحسر، في وقت يطالب فيه جيش الاحتلال 54 ألف شاب حريدي جديد أن يلتزموا بقوانين التجنيد، في ظل عصيانهم لهذه القوانين ورفضهم للتجنيد، يعني تحريضاً إضافياً تقدمه غزة للمجتمع الإسرائيلي ضد المستوى السياسي وأركان الجيش، فمن يتجند من الحريديم ويترك تعليمه التوراتي، مصيره محرقة غزة، حيث تحترق جثته وتتداخل مع الجثث الأخرى ولا يضمها قبر منفصل.

بصمة بيت حانون الفارقة علامة إنتاج حصرية، على مفاصل تحولات الحرب، ماذا تعني بالعرف العسكري وبأصدائها السياسية؟

أولاً: خصوصية بيت حانون الجغرافية باعتبارها خاصرة رخوة تفتقد لمقومات طبيعية تساعد المقاومة من جبال أو وديان، وهي منطقة مستهلكة عسكرياً في عمليات جيش الاحتلال، ولا يمكن حصر أطنان المتفجرات الأميركية ولا تجريفات الـD9 و الـD10 ولا حراثة جنازير الميركافا، في تقليب رمالها المكشوفة أصلاً، لا أمام الطائرات المسيرة والأقمار الاصطناعية فحسب، إنما تحت رقابة الجنود المباشرة عبر السياج الملاصق، ما يعطي للنجاح القسامي في بيت حانون ميزة خاصة تنسف مجمل الإنجازات العسكرية الميدانية لجيش الاحتلال ومنظومته الأمنية.

ثانياً: نجاح كتيبة بيت حانون في فرض قواعد اشتباك لعدة ساعات، حوّل التفوق العسكري الإسرائيلي الناري إلى فوضى عارمة، مع العجز عن الوصول إلى جثث الجنود المتفحمة، في وقت اعترفت فيه مصادر الجيش أن كل جنود السرية وقعوا بين قتيل وجريح، وإن اكتفت هذه المصادر بالاعتراف بخمسة قتلى، فإن عدد طائرات الإنقاذ وهبوطها المستمر في المدرجات التي أُقيمت في ستة مشافٍ إسرائيلية، يؤكد أن الخسائر تطابق ما تسرّب خارج مقص الرقابة العسكرية عن حوالى 20 قتيلاً وعشرات الجرحى، خاصة أن صوت الانفجار وصل حتى مدينة الخليل، وانطلقت صفارات الإنذار في عدة مستوطنات من غلاف غزة.

ثالثاً: وصلت أصداء معركة بيت حانون عبر المحيط الأطلسي لتعكّر مزاج نتنياهو في حضرة سيده ترامب، وربما سأله ترامب عن بيت حانون التي لم يسمع بها من قبل؟ هو يسمع غالباً عن جباليا والشجاعية ورفح، أمّا بيت حانون فمن هي حتى تتصدر مشهد القتال بهذا الأثر العالمي؟ وهناك، كيف يمكن لنتنياهو أن يتحدث عن النصر المطلق بعد 640 يوماً من الحرب؟ وهي الحرب التي نقل فيها ترامب ومن قبله بايدن، آلاف الأطنان من المتفجرات عبر أكثر من 800 رحلة جوية و200 رحلة بحرية، ولكن ها هي بيت حانون تطلق موجة تفجيرية على أربع مراحل، ربما حبكتها كتيبتها من بقايا متفجرات أميركية لم تنفجر، ليرتدّ السحر على الساحر.

توقيت نبض بيت حانون السحري جعل كل عمليات جيش الاحتلال، ومن خلفها ألاعيب السياسة الإسرائيلية لصياغة شرق أوسط جديد، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، في وقت تحاول فيه عبر المبعوث الأميركي ويتكوف، فرض شروطها في تفاوض الدوحة غير المباشر، ولكنها في غمضة عين وانتباهتها فاجأت الجميع (كش ملك) رفعت الأقلام وجفّت الصحف.