كيف قوضت الصهيونية حاجز العقلانية المضاد لمعاداة للسامية؟
لأول مرة تاريخيًا، قد يكون الخطاب الصهيوني مسؤولاً عن إضفاء شرعية عقلانية على "معاداة السامية" واستهداف اليهود جماعيًا لكونهم يهوداً، مُضفيًا على الكراهية القديمة طابعاً سياسياً عصرياً.
-
ليست علاقة الصهيونية بالهوية اليهودية أمرًا يمكن إثباته علميًا.
كانت العلاقة ملتبسة دائمًا بين الصهيونية و"معاداة السامية" بالغرب. فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني استعماري أوروبي قائم على الاحتلال والاستيطان والإبادة وإحلال شعب محل شعب وتاريخ محل تاريخ وثقافة محل ثقافة.
وله سرديته وديباجاته ومبرراته: مزاعم "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" و"شعب بلا أرض لأرض بلا شعب"، و"عبء الرجل الأبيض" في الارتقاء بالشعوب الأصلية "الهمجية" أو إنكار وجودها. وجاء انطلاق الحركة الصهيونية إثر محاكمة جائرة للضابط الفرنسي اليهودي درايفوس، أواخر القرن 19، بتهمة الخيانة العظمى جسدت "معاداة السامية"، فاتخذتها منطلقاً ومبررًا.
المسألة اليهودية
حكمت علاقة اليهود بالغرب المسيحي ثلاثة محددات: المسألة اليهودية؛ المشروع الإمبريالي الغربي؛ تنظيم الاجتماع الغربي. لم يتقبل الاجتماع الأوروبي وجود اليهود، فشهدوا موجات اضطهاد وترحيل وتمييز، واختُصِر ذلك بـ"المسألة اليهودية". وجاءت الإصلاحات والحقوق المدنية والمواطنة بأوروبا لتنظيم مجتمعاتها وتجنيدها لخدمة المشروع الإمبريالي وزيادة موارده البشرية.
وهذا عقّد "المسألة اليهودية"، فاليهود نالوا حقوقًا بدون كبير فائدة للمشروع الإمبريالي. ولاح المشروع الصهيوني بفلسطين فرصة سانحة، التقطتها بريطانيا لجعله حاجزا استيطانيا يفصل مصر عن "آسيا العربية"، ويمنع أي مشروع وحدة كمشروع محمد علي بعد إعلان بريطانيا (1840) سيناء حدا فاصلا لنفوذ الباشا.
وهنا، نشأت علاقة تخادم بين الصهيونية و"معاداة السامية"! فتفاقُم الأخيرة يجنّد يهودًا أكثر للمشروع الصهيوني بفلسطين، وذروة ذلك المرحلة النازية (1933-1945)، فاتصلت عصابات الإرهاب الصهيونية بالنازيين لاستغلال الهولوكوست وتهجير يهود ألمانيا ووسط أوروبا إلى فلسطين!
ظاهرة غير عقلانية
تاريخيًا، كانت معاداة السامية، بحسب الكاتب الإيرلندي، ديلان إيفانز، ظاهرةً غير عقلانية، قائمةً على أساطير، وقراءات متعسفة للأناجيل، وافتراءات طقوس الدم، ونظريات علمية زائفة. تغذت الظاهرة بنظريات المؤامرة، وتصورات ترى اليهود غرباء أشرارًا بغض النظر عن معتقداتهم وسلوكياتهم الفعلية. انتشرت أساطير تحالف اليهود مع قوى شيطانية وامتلاكهم قوى سحرية سرية، بشكل واسع بأوروبا القروسطية. وأججت تأويلات مغرضة للأناجيل – تجرّم اليهود بـ"قتل المسيح" – العداء المسيحي.
وأشعلت اتهامات باطلة لليهود باختطاف أطفال مسيحيين وقتلهم لأغراض طقوسية، شرارة مذابح عنيفة بأوروبا. وصنّفت نظريات "العنصرية البيولوجية" الزائفة اليهود عِرقًا مُنحطًا، واستُخدمت لتبرير الإقصاء والاضطهاد، والإبادة الجماعية. لم يكن لهذه الأفكار أساس عقلاني، بل اعتمدت كليًا على الخيال والخوف وتجريم الآخرين.
عداء السامية السياسي
يلاحظ إيفانز أن دمج الهوية اليهودية بالصهيونية، وادعاء تمثيل إسرائيل يهود العالم، أضاف بُعدًا سياسيًا جديدًا لمشاعر معاداة السامية، ووفّر لها أساسًا عقلانيًا. فانهيار التمييز بين جماعة دينية وثقافية متنوعة ودولة قومية محددة، يُنشئ أساسًا موضوعيًا (مشروعًا) لعداء اليهود، الذي لم يعد متجذرًا بالخيال أو التحيز فحسب، بل بأفعال "دولة" تزعم التحدث باسم جميع اليهود.
لأول مرة تاريخيًا، قد يكون الخطاب الصهيوني مسؤولاً عن إضفاء شرعية عقلانية على "معاداة السامية" واستهداف اليهود جماعيًا لكونهم يهوداً، مُضفيًا على الكراهية القديمة طابعاً سياسياً عصرياً.
يُميّز الردّ التقليديّ المؤيد لفلسطين على اتهامات معاداة السامية بين كراهية اليهود والتحامل عليهم كيهود وبين معاداة الصهيونية كمشروع سياسيّ لإقامة واستدامة دولة يهودية بفلسطين؛ ويتهم أنصار إسرائيل الصهاينة بجعل تهمة "معاداة السامية" سلاحًا وبالخلط المتعمد بين انتقاد إسرائيل وكراهية اليهود.
لكن الحجة الأعمق والأكثر راديكالية، التي يبرزها إيفانز، تسير هكذا:
المقدمة الأولى: تدّعي الصهيونية أن اليهودية والهوية اليهودية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بالمشروع السياسيّ لإقامة دولة يهودية.
المقدمة الثانية: تُعرّف إسرائيل نفسها "دولة يهودية" تُمثّل جميع يهود العالم.
المقدمة الثالثة: هكذا، يصبح العداء لإسرائيل والصهيونية، في الواقع، عداءً لليهود كيهود، لأنهم يُعاملون ليس كأفراد أو أتباع دين فقط، بل كأعضاء جماعة سياسية عالمية مرتبطة بدولة قومية.
الخلاصة: جعلت الصهيونية، والسردية الرسمية لدولة إسرائيل، ما كان سابقًا كراهية غير عقلانية بلا أساس (معاداة السامية التقليدية) عداءً عقلانيًا بمبرر موضوعي أساسه الدولة. هذا الشكل العقلاني لمعاداة السامية لا يُبَرِّر بأسباب أسطورية أو بيولوجية مزعومة، بل بخطاب صهيوني يُسقط الحدود بين اليهودية والصهيونية السياسية.
وهذا خط نقاش حاد ومثير للجدل، يدخل مجالاً أخلاقيًا وبلاغيًا مراوغًا، لكنه يستحق الاستكشاف نظرًا لتداعياته المهمة.
انقلابٌ شاذ
يرى إيفانز أن الصهاينة، بتعريفهم إسرائيل دولة يهودية، ومساواتهم الصهيونية بالهوية اليهودية، وإصرارهم أن انتقاد إسرائيل يعادي السامية لأنه يستهدف جماعة يهودية، يُرسّخون أو يُعززون فعليًا فكرة مسؤولية اليهود جماعيًا عن أفعال دولة معينة. وإذ تشمل أفعالها جرائم حرب عديدة وتطهيرًا عرقيًا وإبادة جماعية، فهذا يُعادل خلق شكل عقلاني لمعاداة السامية، ويُمكن الآن تفسير العداء لإسرائيل كعداء لليهود كيهود، بعد إعادة تعريفهم جماعيًا (صهيونيًا وإسرائيليًا) كفاعلين سياسيين.
يُمثل هذا انقلابًا شاذًا: فالإطار الصهيوني، قُصِدَ به أصلا حماية اليهود من معاداة السامية، فانتهى به الأمر لتقديم مبرر لها. يتجاوز هذا الخط الفكري بكثير الردّ المُعتاد المُؤيد لفلسطين على اتهامات معاداة السامية: "إن انتقاد إسرائيل ليس معاداة للسامية. معاداة السامية هي عداء لليهود كيهود؛ الصهيونية أيديولوجية سياسية".
بدلاً من ذلك، يتساءل هذا الانقلاب الشاذ: إذا كان الصهاينة يهدمون التمييز بين اليهودية والصهيونية، أليسوا هم من يُقوّض الحاجز العقلاني الذي كان يُبقي معاداة السامية، تقليديًا، غير عقلانية وغير مُبررة؟!
يمكن اعتبار هذا جدلاً مُرتدًا: "أنتم تتهموننا بمعاداة السامية لمهاجمتنا دولة، لكنكم أنتم من يُعرّفون اليهودية بمصطلحات تربط جميع اليهود بتلك الدولة".
يُشكّل هذا الانقلاب الشاذ مخاطر أخلاقية جسيمة لأنه يُقرّ الذنب الجماعي الذي كان أساسًا لمعاداة السامية غير العقلانية. حتى لو قُصِد منه نقد الأيديولوجية الصهيونية، فقد يبدو كأنه يقول: "حسنًا، إذا رأى اليهود التماهي مع إسرائيل، فإن كراهية اليهود بسبب إسرائيل قد تكون منطقية".
هذا، بالطبع، فخ. إنه يعكس ويُعزّز الفكرة الخاطئة القائلة بتجانس اليهود سياسيًا وتنسيقهم عالميًا، وهي نظرية مؤامرة وفرت أساسًا زائفًا لمعاداة السامية التقليدية. بعبارة أخرى: قد تكون النقطة البلاغية متماسكة منطقيًا كنقد للخلط الصهيوني، لكنها محفوفة بالمخاطر أخلاقيًا وسياسيًا.
لكن إيفانز يطرح رؤية أكثر مسؤوليةً:
بإصراره على تمثيل إسرائيل لجميع اليهود، يُعمّم الخطاب الصهيوني أفعال الدولة بشكل خطير، ويفاقم مخاطر ردود الفعل المعادية للسامية، وإن كانت لا تزال غير مُبررة، إلا أنها تُستثار وتُؤدي لهذا الخلط. هذا يستبقي نقد الصهيونية، ولا يقترح أن معاداة السامية تُصبح مشروعة.
اليهودية مقابل الصهيونية
لقد تعاطى مفكرون بالفعل مع هذا الخط من الحُجج بحذر وأحيانًا بتهور. حذّرت الفيلسوفة اليهودية، حنة أرنت، في تقاريرها عن محاكمة أيخمان وغيرها، من أخطار خلط اليهودية بـ"الدولة" والقومية السياسية. انتقدت أرنت ادعاء النائب العام الإسرائيلي لدى محاكمة أيخمان عام 1961 أنه يتحدث ليس فقط باسم إسرائيل، بل باسم الشعب اليهودي عالميًا، ماضيًا وحاضرًا. وقلقت من أن هذا الادعاء يطمس الخط الفاصل بين المواطنة والهوية، ويعزز فكرة أن اليهود جماعة سياسية عابرة للحدود القومية، ويؤجج صورًا نمطية لمعاداة السامية زعمت الصهيونية حماية اليهود منها. لم تُجادل أرنت قط بأن هذا يُشرعن معاداة السامية، لكنها قلقت جدًا من أن هذه الاستراتيجية تأتي بنتائج عكسية وتؤكد سردية الذنب الجماعي.
أرنت هي أشهر ناقد ينتمي لتقليد فكري راسخ، بالأوساط اليهودية المناهضة للصهيونية، تقليد قَلِق من أن تماهي اليهودية مع الصهيونية يفاقم تعرض اليهود للوم الجماعي. لكن جوديث بتلر، الفيلسوفة اليهودية الأميركية، كانت صريحة أيضًا في تمييزها بين اليهودية والصهيونية. ففي صياغة شهيرة مثيرة للجدل، قالت بتلر:
من المهم فصل اليهودية عن الصهيونية، لأنه عندما تدعي الصهيونية التحدث باسم جميع اليهود، فإنها تُعرّض اليهود للنقد السياسي والترذيل الأخلاقي جماعيًا، وهذا خطير.
لم تقصد بتلر أن معاداة السامية تصبح مشروعة عندما يتماهى اليهود مع إسرائيل، بل إن هذا الخلط يفاقم خطر معاداة السامية بجعل اليهود مسؤولين جماعيًا عن سياسات الدولة.
المشكلة هنا، يلاحظ إيفانز، أن الأمر أفلت بالفعل، وتجاوزت الأحداث تحذير بتلر. فقد وجد مسح الهوية اليهودية القومية، الذي أجراه معهد "أبحاث السياسات اليهودية" في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2022، أن نسبة يهود بريطانيا الذين يُعرّفون أنفسهم كـ"صهاينة" انخفضت بالعقد الماضي من 72% إلى 63%، لكنها لا تزال تُقارب الثلثين. وقدّرها مسح آخر أجرته حملة "مناهضة معاداة السامية" في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بـ80%، ووجد 97% من يهود بريطانيا يشعرون بـ"ارتباط شخصي" بأحداث جارية بإسرائيل. وهذا يُفنّد ادعاء أن الصهيونية منفصلة عن الهوية اليهودية.
حرب المواقع
ليست علاقة الصهيونية بالهوية اليهودية أمرًا يمكن إثباته علميًا. بل سيُحسم الأمر بما يسميها غرامشي "حرب المواقع"، صراعًا ثقافيًا وفكريًا مطولا لأجل الهيمنة. لا تزال خطابات متنافسة تتدافع حول فهم اليهودية، وهل تُؤطَّر إسرائيل ضامنًا عالميًا لسلامة اليهود أم مشروعًا سياسيًا طارئًا. لا يزال الصراع مستمرًا، لكنه قد يدخل مرحلته النهائية قريبًا. لم يعلن الصهاينة النصر الكامل بعد، لكنهم قريبون من ذلك.
لكي يكتسب موقف بتلر أرضية، يتطلب الأمر تحولاً عميقاً في السرديات الطائفية، والتعاليم الدينية، والتحالفات السياسية، والفهم العام للذات بين يهود العالم. لكن تظهرر الاستطلاعات أن الكتلة المهيمنة لا تزال تربط بقوة الهوية اليهودية بإسرائيل والصهيونية.
وهذا، بحسب إيفانز، يخلق دينامية خطرة: فكلما أصبحت الصهيونية جزءًا لا يتجزأ من تعريف الذات اليهودية، يصعب القول إن انتقاد إسرائيل ليس انتقادًا لليهود، ولو ضمنيًا؛ وزادت مخاطر اكتساب معاداة السامية وجهًا سياسيًا، بدلاً من مجرد جنون الارتياب. فإذا كان اليهود يدعمون إسرائيل، فلا مفاجأة إذا واجهوا ردود فعل معادية، لم تعد هامشية كما كانت سابقًا. ولم يعد مثل هذا الخطاب الخطِر حِكرًا على نشطاء يؤيدون فلسطين ويناهضون الصهيونية.
لا يمكن أن تكون مخاطر هذا النقاش أعلى من ذلك! فإذا حقق دمج الهوية اليهودية بالصهيونية هيمنةً كاملة، فإنه يُرسّخ إطارًا لا يُرى فيه اليهود مجتمعًا دينيًا أو ثقافيًا أو جماعات شتات، بل كجماعة سياسية عالمية مرتبطة بدولة قومية وأفعالها. وهذا يفتح باب أحد أشكال العداء الذي قد يُطلق ويفاقم منطق النقد السياسي الدولي بدل التحيز الخرافي القديم، لكنه يُفعّل أنماط ذنب جماعي أقدم كثيرا.
اليهود المناهضون للصهيونية
يتساءل إيفانز: ماذا سيفعل اليهود المناهضون للصهيونية إذا خسروا، كما يُرجّح، صراع الهيمنة؟ هل سيُضطرون لنبذ هويتهم اليهودية؟ أم سيُدفعون للهامش كهراطقة داخليين، ويُتسامح معهم، في أحسن الأحوال، كمعارضين شاذين، وفي الأسوأ، يُشوهون كخونة لشعبهم؟ لن يكون الضغط لأجل إخضاعهم سياسيًا فحسب، بل وجوديًا، وسيرتبط الانتماء الجماعي والهوية الشخصية ارتباطًا وثيقًا بمصير وأيديولوجية إسرائيل.
يشكل هذا، بالنسبة ليهود مناهضين للصهيونية، معضلة أخلاقية وثقافية عميقة: كيف يُؤكّدون يهوديتهم دون الخضوع لتعريف يرفضونه، وكيف يُقاومون سرديةً مُهيمنةً تمحو تنوّع الأصوات اليهودية؟ سيُصبح وجودُهم بحدّ ذاته فعلاً متحدٍيًا، يستبقي وجود هوية يهودية مُنفصلة عن الدولة القومية، تُصرّ على أن اليهودية تعني شيئًا أكثر – أو شيئًا آخر – غير الولاء للصهيونية.
بالنهاية، تتطلّب مقاومة الاستيلاء الصهيوني على اليهودية إحياء موارد فكرية وتقاليد ثقافية حافظت تاريخيًا على التمييز بين اليهودية والقومية السياسية. وهو تمييزٌ حيويٌّ ليس فقط لليهود، بل للنضال الأوسع ضدّ التجريم الجماعي، ولتكريس التفكير الجوهري. فليس التحدي حماية اليهود من معاداة السامية فحسب، بل رفض أطر تتيح لسلطة الدولة الاستيلاء على الهويات الدينية والثقافية بالجملة وتعريفها.
وبدون مثل هذا التدخل الضروري، يحذر إيفانز، فإننا نخاطر بترسيخ عالم يعيد تغليف الكراهية القديمة بمظالم حديثة، ويسمح لمفارقات التاريخ المأساوية بالعودة!
والمفارقة الكبرى أن المشروع الصهيوني الذي يزعم، تبريرا لوجوده، أنه قام لحماية اليهود من "معاداة السامية"، هو المستفيد الوحيد منها ولا يريد خمودها، وهو أول من ينفخ في أوارها ونارها ويملأ الدنيا صخبًا وجلبةً حولها، ويستخدم أدوات النازية وأساليبها كتفجير الأحياء اليهودية ببلاد عديدة لتهجير يهودها إليه.