ترامب الرأسمالي: حروب لخدمة "الطبقات الوسطى"؟

العولمة التي انطلقت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أدت إلى مسار كارثي بالنسبة إلى الصناعات والطبقات المتوسطة الأميركية لم يعد بالإمكان وقفه، عمّقته بقوة الأزمات الاقتصادية خلال القرن الحادي والعشرين.

0:00
  • سياسات ترامب الحالية تبدو أكثر توجهاً نحو تعزيز الطبقات المتوسطة.
    سياسات ترامب الحالية تبدو أكثر توجهاً نحو تعزيز الطبقات المتوسطة.

منذ مجيء الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، وضع الرؤساء الأميركيون نصب أعينهم، هدف تحسين الوضع الاقتصادي وإنعاش الطبقات المتوسطة التي تضررت بشكل كبير من تلك الأزمة.

لم يحصل تدهور وضع العائلات الأميركية والطبقات المتوسطة في الولايات المتحدة الأميركية بين ليلة وضحاها، بل عبر مسار زمني متدرج. فالعقود الممتدة من الحرب العالمية الثانية إلى السبعينيات من القرن الماضي، كانت عصراً ذهبياً للطبقة الوسطى الأميركية، إذ قادت الولايات المتحدة قطاع التصنيع العالمي مع منافسة خارجية ضئيلة. 

كانت مرحلة السبعينيات بداية التحوّل، فقد تأثر الاقتصاد الأميركي بأزمات النفط والركود التضخمي، وصعود المنافسة الصناعية العالمية. بعدها، أدى مجيء ريغان والسياسات التي اتبعها في الثمانينيات إلى تحوّل كبير في النظام الاقتصادي الأميركي.

أدّت العولمة التي انطلقت بقوة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، إلى مسار كارثي بالنسبة إلى الصناعات والأجور والطبقات المتوسطة الأميركية لم يعد بالإمكان وقفه، عمّقته بقوة الأزمات الاقتصادية والفقاعات المالية خلال القرن الحادي والعشرين.

إذاً، هي مجموعةٌ من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، أدّت إلى تآكل الطبقات الوسطى في الولايات المتحدة الأميركية، نذكر أبرز تلك الأسباب:

1) التقدم التقني والتكنولوجي، الذي أدّى إلى تغيّر في وجهة التصنيع وحلّت الآلات مكان العديد من الوظائف متوسطة الأجر. أدى هذا إلى هوّة وظيفية، تشبه الهوّة بين الفقراء والأغنياء، حيث ازداد عدد الوظائف عالية المهارات والأجور، وكذلك الوظائف منخفضة المهارات والأجور، مع تناقص الوظائف بينهما.

2) العولمة وسعي الشركات للربح

مع العولمة، ازدادت الهوّة بين الأغنياء والفقراء، وأدّت هيمنة وول ستريت على السوق إلى تحويل التركيز من الاستثمار طويل الأجل في العمال إلى الربح قصير الأجل.

أدى سعي الشركات إلى الربح الكبير، بالتزامن مع تحرير التجارة العالمية، وإنشاء مناطق تجارة حرّة، إلى انتقال الوظائف إلى الخارج حيث تكون العمالة أرخص. وهكذا، خسر العمال الأميركيون وظائفهم، خاصةً في قطاع التصنيع، بسبب انتقال المعامل إلى الخارج، ومنها المكسيك (بعد توقيع اتفاقية نافتا) وإلى آسيا بشكل عام والصين لاحقاً، حيث الأجور أقل، والشروط أسهل.

3) تحرير الاقتصاد والسياسات الحكومية

خلال عهد الرئيس رونالد ريغان، حصل تحوّل في بنية النظام الأميركي الاقتصادية، إذ قام بتحرير الاقتصاد، وخفض الضرائب على الشركات والأثرياء وتقليص الإنفاق الاجتماعي وتخفيض الدعم للأسر(حضانة، إجازة مرضية، مساعدات مدرسية، إلخ)، وهي السياسة نفسها التي اتبعتها مارغريت تاتشر في بريطانيا واستمر فيها الرؤساء الأميركيون بعده.

بالإضافة إلى ذلك، بدأ مع ريغان ما يسمى "فجوة التعليم" حيث بات التعليم العالي مكلفاً جداً، وأصبح الأميركيون أقل قدرة على الحصول على شهادات جامعية من دون الوقوع في فخ الديون. مع العلم أن العمل في السوق المعولم بات يشترط الحصول على شهادات جامعية عالية.

4) عدم تناسب الأجور مع ارتفاع الأسعار

لم تقم الولايات ولا الحكومات الفيدرالية، بتحسين الأجور لمواكبة التضخم وارتفاع أسعار السكن، والدراسة الجامعية، والرعاية الصحية، ورعاية الأطفال الخ...

وتذكر العديد من التقارير أن الأسر الأميركية حالياً، حتى تلك ذات الدخل المزدوج، تكافح لتحقيق الاستقرار الذي كان يمكن أن يوفره دخل فرد واحد في الأسرة قبل 50 عاماً.

5) تراجع النقابات العمالية

بالرغم من تشديد التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي الذي يتزعمه برني ساندرز على ضرورة تفعيل النقابات العمالية، وإدراج ذلك في برنامج الرئيس جو بايدن عام 2020، فإن نسبة الأميركيين المنتسبين إلى النقابات تبلغ أقل من 10% من العمال، فيما كانت هذه النسبة أكثر من 30% خلال الخمسينيات من القرن الماضي.

في النتيجة، يبدو أن السياسات التي يقوم بها ترامب سواء حرب التعريفات الجمركية لحماية وتعزيز التصنيع المحلي، أو طرد العمال غير الشرعيين لتوفير فرص عمل للأميركيين، أو غير ذلك من السياسات، تهدف الى إنعاش الاقتصاد الأميركي وخلق فرص عمل، وتعزيز الطبقات المتوسطة.

وبالرغم من رغبة ترامب في تعزيز وضع الشركات الكبرى عبر تخفيض الضرائب، لكن سياساته الحالية تبدو أكثر توجهاً نحو تعزيز الطبقات المتوسطة وإعادة الولايات المتحدة – بقدر المستطاع-إلى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حين شكّلت الهيمنة الأميركية فرصة لرفاهية الأميركيين بدل أن تكون عبئاً عليهم بتكاليفها الكبيرة، فهل ينجح في ذلك، أم يكون عليه التخلي عن الهيمنة في سبيل تخفيض التكاليف؟