ترامب ونوبل للسلام؟
لماذا يطمح رجال الأعمال، في اختتام رحلة الثراء، إلى قيمة اجتماعية لا تستند إلى المال وحده؟ منصب سياسي، أو قيمة فكرية، أو شخصية تستشيرها العامّة في تفاصيل الحياة، أو شخصية محبوبة يرغب الجميع في مصافحتها؟
-
كثيراً ما تعمل جائزة نوبل بمنطق المكافأة على المساهمة في اختلال العالم.
في الثاني عشر من نيسان/ أبريل 1888، استيقظ العالم على خبر وفاة لودفيغ نوبل، الشقيق الأكبر لألفرد نوبل، الذي تنسب إليه جائزة نوبل الشهيرة.
كان نهاراً استثنائياً بالنسبة إلى ألفرد، ليس بسبب وفاة شقيقه فقط، ولكن بسبب اصطدامه بعنوان صحافي صادم (نهاية تاجر الموت)؛ إذ اعتقد جزء من الصحافة أن الذي مات، ليس المهندس وتاجر النفط في أذربيجان (لودفيغ)، وإنما مؤسس الجائزة اللاحق، مخترع الديناميت (ألفرد). استيقظ ألفرد ليس فقط على خبر وفاة أخيه، وإنما على الكره العام له شخصياً!
لماذا يطمح رجال الأعمال، في اختتام رحلة الثراء، إلى قيمة اجتماعية لا تستند إلى المال وحده؟ منصب سياسي، أو قيمة فكرية، أو شخصية تستشيرها العامّة في تفاصيل الحياة، أو شخصية محبوبة يرغب الجميع في مصافحتها؟ ربما ذلك هو اليأس من النظرة إلى الذات ك "كيس نقود" فقط، يقول نيتشه إن هنالك فرقاً بين الأثرياء ورفيعي الشأن!
يقول مثل بولوني قديم "وصية الميت مرآة حياته"؛ وتأسيس جائزة نوبل، وتخصيص ما يكافئ 265 مليون دولار بقيمة اليوم، كان انتقاماً شخصياً لألفرد نوبل من الكره العام، الذي كشفه موت أخيه، وكان محاولة لتأسيس بروفايل شخصي يحقق الذات أكثر مما فعلته عشرات المصانع التي نشرها ألفرد في أوروبا. ليس غريباً أن يخصص ألفرد نوبل الجزء الأكبر من الجائزة لصالح العلوم الطبيعية (الكيمياء، الفيزياء، الفسيولوجيا والطب)، ولكنه أيضاً استرد هوس طفولته بأرسطو وأفلاطون وجون لوك، فخصصّ جائزة واحدة للأدب، أما جائزة السلام، فهي بالذات كانت انتقاماً من الكره العام!
يقول ألفرد نوبل لصديقته، التي تعرف عن نفسها كناشطة في حركات السلام الدولية، برثا فون سوتنر "إن مصانعي أشد فعالية من مؤتمراتكم للحدّ من الحروب، وفي اليوم الذي يتمكن فيه جيشان من أن يبيد أحدهما الآخر، سوف تتخلى الأمم المتحضرة عن الحرب، وتضع قواتها المسلحة في إجارة. وعندما يسلط السيف على رؤوس الجميع، تتحقق الأعجوبة".
ربما من المجحف أن نذهب بمقارنة شخصية بين ألفرد نوبل وترامب، فالأول يحبّ العلوم والثاني يحتقرها، والأول أحبّ العلوم الاجتماعية وأبعده والده إيمانويل عنها ورماه في أحضان معهد الكيميائي الفرنسي الشهير تيوفيل جيل بيلوز، والثاني لا يعطي بالاً للعلوم الاجتماعية والتاريخ، والنقطة المعيارية في تفكيره هي غريزة عالم الأعمال.
ينطلق ألفرد نوبل في نظرته إلى السلام، من منطق النظام الأمني الدولي في حقبته، "توازن القوى"، ولكنه أيضاً توافق مع هذه الفرضية بما يتناسب مع مصلحة أعماله واستمرار شراء منتجاته، التي تجعل جميع الأطراف تمتلك القوة، فلا يستخدمها أحد، على الرغم من أنه أشار في وصيته إلى مبدأ تخفيض عتاد الجيوش في العالم. يصيغ ترامب عنوان "السلام بالقوة" من زاوية مناقضة تماماً، زاوية "عدم توازن القوى"، فالقوة الأكبر تفرض شروطها على الآخرين، الذين لا يجرؤون على المواجهة، فيحلّ السلام (مبدأ السلام الروماني في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس).
مجدداً، تبدو المقارنة الشخصية مجحفة، ولكن ثمة عامل أخير جامع، وليس مفارقاً؛ "النرجسية". خزّان الطموح في عالم الأعمال بالنسبة إلى دونالد ترامب استنفد الكثير من جوائزه النفسية الممكنة، واليوم ترامب مهتم بأن يكون نجماً أكثر من أن يكون فاعلاً سياسياً بالمعنى الجوهري للفكرة، والإنجاز السياسي هو جسر الوصول إلى النجومية، وهذا ما يضع ترامب في خانة الشعبوية السياسية. نتنياهو يدرك حقيقة هذه السمة؛ ويغازلها ويثيرها، في إطار محاولات تحقيق المزيد من مكاسب الدعم السياسي والميداني. وإذا كانت قصة جائزة نوبل نفسها، هي مدعاة للتندّر، فإن مشهد نتنياهو يرشّح ترامب لجائزة نوبل للسلام، فهو قطعة من مشهد هزلي على خشبة مسرح وحشي!
ولادة جائزة نوبل لا تعطي أملاً واهماً بما يمكن أن تقدمّه للرأي العام العالمي، ولكنها أيضاً انحدرت أكثر مع مرور الزمن. بعد أن توقّفت جائزة السلام خلال الحربين العالميتين، استهلّت مشوارها عام 1950 برالف بانتش، على جهوده في اتفاقية الهدنة في فلسطين عام 1949، ولقد كانت الجائزة حينها بمنزلة تحويل صورة أبشع أنواع الاحتلال (الاستعمار الاستيطاني) إلى اتفاق بين أطراف متنازعة. بانتش كان شخصية أميركية، وعمل مساعداً في السابق للكونت السويدي، فولك برنادوت، الذي اغتالته العصابات الصهيونية، بسبب رفضها لشروطه (برنادوت) في الهدنة!
عام 1978، منحت الجائزة بالمناصفة، لأنور السادات ومناحيم بيغين، على اعتبار اتفاقية كامب ديفيد تستحق جائزة السلام. كان منح الجائزة للسادات بمنزلة المكافأة على إخراج مصر من الصراع، وكان منحها لمناحيم بيغين، اعترافاً عالمياً بأن منظمة الأرغون، النسخة الأكثر تطرفاً من الهاغاناه نفسها، هي الصورة التي تليق بها جائزة عالمية. كان بيغين ينظر إلى تطرف الهاغاناه، وتطرف بن غوريون وبيريز ورابين، على أنها مستويات متحفظة من التطرف، وربما مستويات من "اللّين" غير المبرر.
بعد منح الجائزة للسادات ومناحيم بيغين، غنّى الشيخ إمام بكلمات أحمد فؤاد نجم، أغنية خاصة عن منحهما الجائزة. قلب الكلمات في الأغنية، ليقول للعالم، هاك منطقك المقلوب، فليس غريباً بعد اليوم أن تصبح الثانية 12 ساعة، وأن يصبح اليوم ليلتين ونهاراً!
كثيراً ما تعمل جائزة نوبل بمنطق المكافأة على المساهمة في اختلال العالم، وربما ثمة شعور لا واع لدى ترامب بالمراهنة على ذلك؛ فسبق أن كافأت نوبل غورباتشوف عام 1990 على ما سمّته إنهاء الحرب الباردة، ولكن المكافأة الحقيقية كانت على تسليم واشنطن التفويض الأكبر في تاريخها لشنّ الحروب في العالم، وسبق لها أن كافأت كسنجر عام 1973 على ما سمّته إنهاء الحرب في فيتنام، ولم تحمّله مسؤولية الآلاف من الفيتناميين الذين قضوا بالعامل البرتقالي أو حتى مسؤولية 58 ألف جندي أميركي قتلوا في غابات هانوي، بسبب مغامرة العدوان الأميركي على فيتنام.
كثيراً ما تسلّط الكاميرات عدساتها على ابتسامة كسنجر الهادئة، لتكشف عن عدم اكتراثه بعدّاد القتلى والضحايا، والمهم أن يعمل منطق الخطوة -خطوة وتسخين الأزمات في الوصول إلى الهدف السياسي. لن تكترث نوبل بتسليط الكاميرات على شخصية من نوع آخر، أكثر انفعالاً وصخباً، وتقتل بصوت أعلى!