تعالوا إلى كلمة سواء

مشكلة تصاعد خطاب الكراهية بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، بطريقة مشبوهة ومريبة، هي معضلة لا بدّ من الالتفات إليها والتوقف عندها، سيما أنها باتت تهدد السلم الأهلي والعيش المشترك في لبنان.

0:00
  • قد يلقي الانقسام الداخلي بثقله على الوقائع والأحوال السياسية الداخلية في لبنان.
    قد يلقي الانقسام الداخلي بثقله على الوقائع والأحوال السياسية الداخلية في لبنان.

عندما ينظر المراقب، بكل تجرد، وربما من بعيد، بالمعنى المجازي، إلى المشهدية السياسية في هذه اللحظة التاريخية، لا بدّ له أن يرصد ظواهر أو مظاهر غير صحية وغير سليمة، وهي أيضًا غير سوية. فهناك الكثير من المفارقات والتناقضات، الأمر الذي يفاقم الحالة في البلد، ويزيدها تعقيدًا وخطورة. فما الذي يفسر، من دون أن يبرر، هذه الملاحظات وهذه المؤشرات حول انسداد الأفق واستعصاء الحل؟

الانقسام الداخلي وخطاب الكراهية

إن مشكلة الانقسام الداخلي في لبنان ليست جديدة على الإطلاق، بل إن غياب، أو بالحد الأدنى ضعف، الوحدة الوطنية تاريخيًّا، هي إشكالية مزمنة، قد أدت إلى انفصام الشخصية الوطنية، بكل معنى الكلمة. إلا أن بروز هذه المشكلة اليوم، في هذا التوقيت وضمن هذا السياق تحديدًا، يفاقم من خطورة الأزمة المزمنة، بل الأزمات المستشرية والمستفحلة، وربما المستعصية، في البلد، ما قد يطيح بالكثير من مبررات الشرعية السياسية والمشروعية الدستورية في الوجود والبقاء!

كما أن مشكلة تصاعد خطاب الكراهية كثيرًا، في الآونة الأخيرة، وبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، بطريقة مشبوهة ومريبة، وهي مشكلة، بل معضلة، لا بد من الالتفات إليها والتوقف عندها، باتت تهدد السلم الأهلي والعيش المشترك في لبنان. هذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة.

هي جريمة سياسية مكتملة الأركان والأوصاف والشروط، ذلك أنها تفضي إلى إثارة العصبيات والنعرات والفتن، الفئوية والجهوية والعنصرية، وتمزيق البلد والمجتمع والشعب أكثر فأكثر!

اليمين المتطرف ومشروع بناء الدولة

ثمة مشكلة تطفو على السطح من جديد. البلد، اليوم، إنما يجتاز مرحلة صعبة، هي دقيقة وحساسة، مع تفاقم مضاعفات الأزمة الداخلية أولًا، ومن ثم تداعيات الحرب الإسرائيلية ثانيًا. مع ذلك، وفي الوقت الذي يعود النقاش فيه حول مشروع بناء الدولة، وبعيدًا من الوقوف أو التوقف أمام مدى صحة التمثيل السياسي والشعبي، تعود الأقلية اليمينية المتطرفة - لا اليمين المسيحي، ولا اليمين السياسي، وإنما أقصى اليمين المتطرف، بخلفيته السياسية والأيديولوجية، الفاشية والنازية والشوفينية - إلى نفس تجربتها السياسية والتاريخية نفسها، بمحاولة منها لتوظيف الظروف والأوضاع والأحوال، الإقليمية والداخلية، الطارئة أو المستجدة، والاستثمار فيها؛ فتصبح الدولة برمّتها، وليس السلطة فقط، في حالة أو في وضعية من انعدام الوزن والتوازن والاتزان. وهذا لا يجوز، لا بمنطق الدولة، ولا بميزان المصلحة الوطنية العليا.

التبعية الداخلية والهيمنة الخارجية والوصاية الأجنبية

يضاف إلى ما سبق أعلاه أيضًا أننا نعيش تاريخيًّا في لبنان حالة من القصور السياسي على خط المبادرة الوطنية، الحرة، المستقلة والسيدة، لاتخاذ القرارات والمواقف والخطوات السياسية. الجميع يعرف، بصرف النظر عن المكابرة والمراوغة، أننا نتخبط في غياهب التبعية الداخلية والهيمنة الخارجية، كما نرزح تحت براثن الوصاية الأجنبية، بغض النظر عن ماهية وهوية الأخيرة. وقد يتجلى ذلك في العديد من المناسبات والمحطات السياسية أو الوطنية، من مثل الانتخابات النيابية أو الانتخابات البلدية والاختيارية، ولدى انتخاب الرئيس للجمهورية أو تسمية وتكليف رئيس للحكومة... وثمة شواهد تاريخية، وكذلك شواهد حية، تفيد بكل ذلك.

ستاتوكو الاعتداء والاحتلال الإسرائيليين

يبدو أن "إسرائيل" لم تعد تقبل بوقف إطلاق النار مع لبنان بحسب القرار الدولي 1701 الصادر سنة 2006، والآلية التطبيقية أو التنفيذية له سنة 2024. وهي لا تريد أيضًا، على ما يبدو، العودة إلى الهدنة مع لبنان، واتفاقيتها الصادرة سنة 1949. أكثر من ذلك، "إسرائيل" ترفض استمرار مسار التفاوض، كما هو أو كما كان، بمعنى عملية التفاوض العسكري، لا الدبلوماسي، ولا حتى السياسي، غير المباشر.

وعليه، تستمر "إسرائيل" بانتهاك وقف إطلاق النار مع لبنان، ضاربة عرض الحائط قرار وقف العمليات العسكرية أو الأعمال العدائية، وغير آبهة بالتزاماتها وتعهداتها في هذا الصدد. وهكذا يؤدي استمرار العدوان والاحتلال إلى للضغط أكثر من قبل "إسرائيل" على لبنان الرسمي والشعبي، بطريقة سافرة، في محاولة متجددة، غير جديدة، لفرض الشروط والإملاءات التي تبدأ بقبول التفاوض المباشر، السياسي والدبلوماسي، ولا تنتهي بنزع سلاح المقاومة، التراجع وتقديم التنازل على صعيد الحدود البرية والبحرية، التنقيب عن الطاقة، التطبيع معها والتوطين، فيصبح عقد السلام وثيقة استسلام.

الثلاثية الوطنية في التضامن والتحاور والتوافق

بناء عليه، على الحكومة، بل لنقل السلطة السياسية، أو بالأحرى كل الطبقة السياسية، لدى ترتيب الأولويات الوطنية، ولدى تحديد المقاصد الوطنية، العمل على أولوية التضامن الوطني أولًا، أولوية التحاور الوطني ثانيًا، أولوية التوافق الوطني ثالثًا وأخيرًا. هي مسؤولية الحكومة والبرلمان والقوى السياسية والكتل النيابية والفاعلين السياسيين في البلد كافة.

وهي مسؤولية سياسية ووطنية وتاريخية، ضمن هذا السياق السياسي وفي هذا التوقيت التاريخي.

من هنا، لا بد من المحافظة على الحد الأدنى من التضامن الوطني في مثل هذه الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة، والمبادرة إلى التحاور الوطني بغية المحافظة على الحد الأدنى من التضامن الوطني، وكذلك الوصول أو التوصل إلى التوافق الوطني، ولا نقول الإجماع الوطني؛ ذلك أن الوحدة الوطنية أو الاتحاد الوطني هما أفضل سبيل ووسيلة في مواجهة العدو الإسرائيلي، بل كل أعداء لبنان المتربصين به شرًّا. وهذه ليست شعارات يوتوبية سوريالية، وإنما هي الواقعية السياسية.

قد يلقي الانقسام السياسي الداخلي بثقله على الوقائع والحقائق والأوضاع والأحوال السياسية الداخلية في لبنان. ويزيد شيوع خطاب الكراهية الطين بلة. كما تعيق وضعية أقصى اليمين المتطرف عجلة العملية السياسية، بينما تؤدي كل من التبعية الداخلية والهيمنة الخارجية والوصاية الأجنبية إلى استنفاد الوقت وتفويت وتضييع الفرص باستنهاض الحياة السياسية.

ثم يأتي العدو الإسرائيلي ليمارس على الجميع، من دون استثناء، أقصى وأبشع وأفظع الضغوط والجرائم. فأين هم أبناء البلد وأهله من كل هذه التحديات والتهديدات والأخطار؟ أيها اللبنانيون، تعالوا إلى كلمة سواء!