تونس: مآلات المواجهة بين الرئاسة واتحاد الشغل

مآلات العلاقة بين الرئيس قيس سعيّد واتحاد الشغل تتراوح بين التصعيد والمواجهة أو هدنة مضطربة، لكن ما يُحدّد المسار هو تطوّر الأوضاع الاجتماعية، واستعداد كلّ طرف لتقديم تنازلات حقيقية.

0:00
  • مآلات المشهد السياسي في تونس وسيناريوهاته.
    مآلات المشهد السياسي في تونس وسيناريوهاته.

انتهت مرحلة التوافق ما بين الرئاسة التونسية والاتحاد العامّ التونسي للشغل؛ وتدحرج المشهد السياسي في تونس صوب التوتر والتصعيد أكثر منه للتهدئة، ولا سيما أنّ الظروف الاقتصادية والسياسية التي تمرّ بها تونس تشهد تراجعاً وتردّياً ملحوظاً، وبالتالي فإنّ السؤال ما هي مآلات العلاقة بين الرئيس قيس سعيّد الذي بات يمسك بكلّ تلابيب المشهد السياسي التونسي كقوة تنفيذية وتشريعية وقضائية؛ وبين اتحاد الشغل التونسي كقوة اجتماعية فاعلة ومؤثّرة في الشارع التونسي، هل يذهب الطرفان إلى الصدام الحتمي أم أنّ التهدئة ممكنة والتوافق بينهما متاح؟.

بدأت بوادر التصعيد تلوح في أفق المشهد التونسي منذ تموز/يوليو 2021 عندما استحوذ الرئيس قيس سعيّد على الصلاحيات كافة، وهمّش دور اتحاد الشغل وتجاهل حضوره ودوره وفاعليّته كطرف مهمّ في المشهد السياسي التونسي؛ لوّح الاتحاد عدة مرات للرئاسة التونسية لكنها استمرت في التجاهل وانتقلت من الشراكة إلى الاستفراد، وبالتالي تحرّك الاتحاد باتجاه خطوات عملية على الأرض وفي الشارع سعياً منه إلى لفت نظر الرئاسة التونسية لكنها لم تلتقط هذا الحراك واستمرت في تجاهل الاتحاد وتحييده، الأمر الذي دفع بالاتحاد إلى استعراض حضوره السياسي والاجتماعي بالنزول إلى الشارع والتهديد بالإضراب، وهذا يعني أنّ الخلافات قد تتطوّر إلى أزمة قد تتدحرج صوب المواجهة والصدام. 

المقلق في تغليب سيناريو تصعيد التوتر بين الرئاسة التونسية واتحاد الشغل هو الاحتكام للشارع، النزول إلى الشارع له معنى وحيد أنّ التوتر تفجّر، وهذا ما قرّره اتحاد الشغل يوم 21 آب/أغسطس 2025؛ عندما دفع بأكثر من ألفي متظاهر من مؤيّديه ومنتسبيه للنزول إلى شوارع العاصمة. صحيح أنّ الاتحاد لم يهاجم الرئاسة مباشرة واكتفى برفع شعارات دعم وتأييد ودفاع عن الاتحاد؛ وطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية ومساحة أكبر للحريات واكتفى بمهاجمة الحكومة. 

لكنّ هذا لا يعني بأنّ تصعيد لغة الخطاب لدى الاتحاد قد يستبعد الرئاسة مستقبلاً والوصول إلى هذه اللحظة وتلك المرحلة يعني أنّ الصدام بات وشيكاً وهذا ممكن؛ ولا سيما أنّ تظاهرة الاتحاد جاءت عقب تظاهرة نظّمها أنصار الرئيس سعيّد واتهامهم للاتحاد بالفساد! وبالتالي بتنا قريبين من سيناريو شارع مقابل شارع وأنصار في مواجهة أنصار، وهذا يعني انتقال المشهد من خلافات ومطالبات بين الاتحاد والرئاسة إلى اختلافات بين مكوّنات المشهد التونسي في الشارع الواحد واحتكام كلا الطرفين لأنصارهما بدلاً من الجلوس والتحاور والوصول إلى اتفاق وتوافق يجنّب المشهد في تونس المواجهة والصدام.

في حيثيات المشهد ومعطياته يبدو الذهاب إلى التصعيد هو الأوفر حظاً؛ وبدلاً من استيعاب تظاهرة الاتحاد ومحاورته قرّرت الرئاسة التونسية رفع مستوى التصعيد درجة أكبر، اتضح ذلك في تعاطي الرئيس قيس سعيّد مع تظاهرة الاتحاد من جهة ومع تظاهرة أنصاره من جهة أخرى، ولوّح الرجل قائلاً: "هناك ملفات يجب أن تفتح لأنّ الشعب يطالب بالمحاسبة... حتى تعود إليه أمواله. لن تكون هناك حصانة لأيّ كان إذا تجاوز القانون، والقانون يطبّق على الجميع ولن نترك أيّ أحد يتطاول على الشعب التونسي".

 وقد تكون هذه الشعرة التي تقسم ظهر العلاقة بين اتحاد الشغل والرئاسة التونسية. لأنّ الواضح أنّ الاتحاد هو الآخر لديه عتاب على الرئاسة وفائض من مكنون الغضب، وتجلّى ذلك في توصيف الاتحاد لوضع البلاد ودوافع الخروج في خطاب الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي الذي قال: "إنّ البلاد تمرّ بمرحلة دقيقة وإنّ الوضع بات قاب قوسين من الانفجار بالنظر إلى عدم القدرة على تلبية انتظار التونسيين". 

مؤكداً أنّ "الاتحاد يتعرّض لهجومات وتشويه وحملات تشكيك وشيطنة صادرة من أعلى هرم سلطة في البلاد"، من دون أن يعلن من هو الطرف المسؤول عن شيطنة الاتحاد، موضحاً بلغة تصعيدية محدودة أنّ الاتحاد لن يصمت وستكون له تحرّكات أخرى، مشدّداً على أنّ البلاد تمرّ بمرحلة دقيقة وأنّ الانفجار وشيك.

التصعيد الحاصل في المشهد السياسي التونسي يكشف عن أزمة سياسية حقيقية قد تتدحرج إلى صدام بين الرئاسة كسلطة تنفيذية وبين أحد أهمّ الأطر والمكوّنات الفاعلة نقابياً واجتماعياً وسياسياً، وبهذا تصبح مؤسسة الرئاسة التونسية في خلاف مع مكوّنات المشهد التونسي كافة. وهو خلاف قابل ومرجّح للانفجار والصدام ولا سميا في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية.

من الواضح أنّ المشهد في تونس يتجه إلى حالة من استعراض القوة بين الرئاسة واتحاد الشغل، وأنّ المشهد ينزلق إلى تظاهرة مقابل تظاهرة وشارع مقابل شارع وأنصار مقابل أنصار؛ واستمرار هذا الوضع يعني أنّ الصدام سيصبح حتمياً وإن حدث سيفضي لانفجار الشارع التونسي. ولا سيما أنّ التظاهرة التي نظّمها الاتحاد تعكس حالة غليان اجتماعي يصاحبه انسداد في الأفق وتصعيد في الخطاب، ولا تعكس بالضرورة الدفاع عن الاتحاد، وبالتالي قد ينقلب الشارع التونسي على الجميع.

استمرار التصعيد ولغة التوتر والتخوين والتلويح بالنزول إلى الشارع تعني أنّ كلّاً من الرئاسة التونسية واتحاد الشغل يغلّبان المسار التصادمي على المسار التصالحي، وهذا سيفضي أولاً: للتدخّل الخارجي وقد بدأ ذلك فأطراف تدعم الرئاسة وأطراف تدعم اتحاد الشغل ما يعني تمدّد الأزمة وتدحرج الصراع إلى خارج الجغرافيا التونسية. ثانياً: تمدّد حالة الغضب في الشارع التونسي من كلا الطرفين الرئاسة واتحاد الشغل، لأنه سيفهم الناس بأنّ ما يحدث صراع سلطة وتنافس مذموم للمحاصصة والمغانم لا من أجل الخروج من الأزمة التي تمرّ بها تونس سياسياً واقتصادياً، وبالتالي الشارع خارج حسابات كلا الطرفين، وعليه قد يصبح الشارع طرفاً ثالثاً ويقلب المعادلة في عموم المشهد السياسي ومكوّناته. ثالثاً: اتحاد الشغل يدفع ثمن تماديه مع الرئاسة التونسية وما يحدث الآن انقلاب في التحالف بين الاتحاد والرئاسة. 

وسبب انقلاب الاتحاد وتغيير تحالفه مع الرئاسة أن وجد نفسه خارج المشهد وخارج السياق ويخوّن ويشيطن وبالتالي حراك الاتحاد من أجل ردّ الاعتبار لا من أجل تحسين أوضاع الناس. وهذه مساحة ومسافة خسرها الاتحاد عندما تخلّى عن دوره في أن يكون رمّانة الميزان الضابطة لإيقاع وتوازنات المشهد في تونس.

مآلات المشهد السياسي في تونس وسيناريوهاته

- سيناريو استمرار مؤسسة الرئاسة في تفرّدها بالسلطة وصدامها مع الجميع، وهذا يعني حتمية الصدام المفضي للانفجار ولا سيما إذا لم يحدث نمو اقتصادي ملحوظ. وهذا سيناريو متوقّع ولا سيما أنّ خطاب الرئيس التونسي لا شراكة.

- سيناريو انتقال الصراع بين الرئاسة واتحاد الشغل إلى الشارع وبالتالي تصاعد الغضب الشعبي نتيجة الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وهذا السيناريو يعني تمدّد الاحتجاجات وتجاوزها لاتحاد الشغل حتى يصعب الإحاطة بها.

- سيناريو التوافق والتصالح بين الرئاسة واتحاد الشغل، خشية من توظيف حزب النهضة للاحتجاجات وقيادتها لمواجهة الرئاسة واتحاد الشغل والثأر منهما، وهذا سيناريو ممكن ومتوقّع وقد تدعمه أطراف خارجية عربية وأوروبية، وحظوظ هذا السيناريو أوفر لأنّ عوائده أفضل للطرفين ويجنّب الرئاسة الذهاب للانتخابات المبكرة، ويوفّر للاتحاد إعادة التموضع في المشهد ليبقى فاعلاً مركزياً بدلاً من الصدام مع الرئاسة.

مآلات العلاقة بين الرئيس قيس سعيّد واتحاد الشغل تتراوح بين التصعيد والمواجهة أو هدنة مضطربة، لكن ما يُحدّد المسار هو تطوّر الأوضاع الاجتماعية، واستعداد كلّ طرف لتقديم تنازلات حقيقية.

وموقف الشارع التونسي من التوتر الحاصل، وموقف ومحدّدات الأطراف الخارجية المعنية بالمشهد السياسي التونسي لجهة التصعيد أو التهدئة.