جنوب السودان.. على حافة الانهيار بين الفساد والحرب الأهلية

 بعد أربعة عشر عامًا من "الاستقلال"، يقف جنوب السودان كنموذج لدولة فاشلة تحكمها نخبة "أوليغارشية" جشعة غارقة في الفساد، بينما يعيش شعبها تحت خط الفقر والحرمان.

0:00
  • جنوب السودان.. دولة مأزومة منذ الولادة.
    جنوب السودان.. دولة مأزومة منذ الولادة.

منذ إعلان "استقلاله" في يوليو/تموز 2011، مثّل جنوب السودان أحدث دولة في القارة الأفريقية برزت إلى حيز الوجود نتيجة تسوية تمت برعاية دولية وإقليمية وضعت حدًا لواحدة من أطول الحروب الأهلية والصراعات في القارة الأفريقية، لكنه سرعان ما خيّب آمال مواطنيه وأصدقائه في الخارج.

فبعد عامين فقط، انزلقت البلاد في أتون حرب أهلية بين رفاق الأمس من قادة "الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان" (SPLM/A)- الحزب الحاكم حاليًا - الذين صُوّروا يومًا ما كمناضلين من أجل الحرية، فإذا بهم يتحولون إلى متصارعين على السلطة والثروة.

دولة مأزومة منذ الولادة

 تراجع الأمل سريعًا في قدرة الدولة الوليدة على بناء مؤسسات قوية وفاعلة وإقامة دولة ناجحة، رغم الدعم الدولي والإقليمي الكبير لنموذجها.

فالرئيس سلفاكير (73 عامًا)، ذو المزاج المتقلب والحكم الفردي، همّش المؤسسات وأحكم قبضته على القرار، بينما انقسم الحزب الحاكم إلى فصائل متناحرة على أسس قبلية لا وطنية. ا

لنتيجة أن جنوب السودان ولد مأزوماً، وظل عالقًا في فترة انتقالية لا تنتهي منذ 2011 لتبقى البلاد من دون مؤسسات منتخبة خاضعة للمساءلة والمراقبة الكافية لتحقيق الأهداف والطموحات التي كان يتطلع إليها الشعب في إقامة دولته الجديدة.

حرب أهلية متجددة

 منذ ديسمبر/كانون الأول 2013، غرقت البلاد في حرب داخلية ذات طابع قبلي بين الرئيس سلفاكير (من الدينكا) ونائبه الأول رياك مشار (من النوير)، تحولت إلى صراع مفتوح على السلطة والثروة بين هاتين القبيلتين الأكبر عددًا والأكثر تنافسًا في البلاد. ورغم توقيع اتفاقيات سلام عديدة، أبرزها عام 2018 بوساطة "إيغاد"، فإن تنفيذها ظل هشًا ومعرّضًا للانهيار في أي لحظة.

ولا تزال البلاد حتى اليوم تدور في حلقة مفرغة من العنف وعدم الاستقرار، فيما تتزايد وتيرة التحذيرات الدولية والإقليمية من مغبة انزلاق البلاد مجددًا في صراعات مسلحة مدمرة، قد تكون لها هذه المرة عواقب وخيمة على البلاد منذ تفجر الخلافات بين الرجلين بشأن تنفيذ اتفاق السلام في آذار/ مارس من العام الحالي.

الفساد: سرطان الدولة

 فاقم الفساد الممنهج أزمات البلاد المتراكمة. فقد نهبت النخب السياسية، والتي تتكون من "أمراء الحرب" السابقين، ثروات النفط، وحوّلت العائدات إلى حسابات خارجية مرتبطة بكبار المسؤولين بدلًا من توجيهها إلى قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية، إذ تم تخصيص مبالغ ضئيلة جدًا من عائدات صادرات النفط التي تجاوزت منذ الاستقلال 23 مليار دولار.

وصف أحدث تقرير للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (سبتمبر/أيلول 2025) جنوب السودان بأنه نموذج صارخ "للنهب الممنهج"، إذ اتهم محققو الأمم المتحدة كبار مسؤولي الحكومة بنهب ثروات البلاد، حيث يتم استخدام الثروات والأموال العامة لشراء الولاءات السياسية كأداة للبقاء في السلطة، فيما غابت تمامًا المساءلة والشفافية.

فوضى سياسية وأزمات متراكمة

 إن تأجيل الانتخابات مرارًا تحت ذرائع واهية يعكس غياب الإرادة السياسية، ويكرّس حكم الأقلية. ومع انهيار الإيرادات النفطية جراء الحرب في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، وانخفاض الدعم الخارجي، تعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة زادت من حدة السخط الشعبي.

كما تصاعدت الاشتباكات المسلحة، واعتُقل عدد من رموز المعارضة بما في ذلك النائب الأول للرئيس (رياك مشار) الذي أعلنت الحكومة مؤخرًا تقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ما جعل مستقبل اتفاقية السلام على المحك ووضعها فعليًا على حافة الانهيار. فيما "تستمر النخب الحاكمة في استغلال الموارد وإشعال التوترات العرقية لتحقيق مكاسب سياسية وحزبية"، بحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

أزمة إنسانية من صنع الإنسان

ووفقًا لتقارير المنظمات الدولية، فإن نصف سكان البلاد تقريبًا – نحو 6.3 ملايين شخص – يعانون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي. ومع تراجع موارد الدولة، أصبح الاعتماد على المساعدات الخارجية اعتماداً شبه كامل، فيما تُدار الأزمات الإنسانية بلامبالاة واستخدام سياسي فاضح من قبل المسؤولين الحكوميين على المستويات كافة، والتلاعب بأعداد المحتاجين أو إعادة توجيه المساعدات المقدَّمة من المنظمات الدولية لأغراض حزبية أو شخصية ضيقة.

ومع تكرار حوادث الفيضانات والكوارث الطبيعية، يزداد الوضع سوءًا، لكن يبقى السبب الجوهري في الأزمات الإنسانية هو سوء الحكم والفساد المستشري.

صعود بول ميل

في ظل نظام كليبتوقراطي (حكم اللصوص)، برز مؤخرًا اسم النائب الثاني للرئيس المعني بالشؤون المالية والاقتصادية، بنجامين بول ميل الذي عُيّن في شباط/فبراير من العام الحالي، كرجل قوي وصاحب نفوذ اقتصادي وسياسي واسع بعد أن كان قيادياً متواضعاً، إذ شغل منصب المبعوث الرئاسي الخاص للرئيس للبرامج الخاصة، ويعدّه البعض خليفة محتملاً للرئيس سلفاكير.

بول ميل، المعروف بصفقاته الكبرى وصلاته الخارجية، يخضع لعقوبات دولية منذ 2021، لكنه أصبح أقرب حلفاء الرئيس وحلقة وصل مع قوى إقليمية، خاصة أبو ظبي.

جدل حول "غزة ريفييرا"

 مؤخرًا، أثارت تقارير عن مفاوضات محتملة لاستقبال جنوب السودان عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم من غزة (نحو 250 ألف شخص، وفقًا لـ "آفريكا إنتليجنس"؛ (16 سبتمبر/أيلول 2025) جدلاً واسعًا داخليًا وخارجيًا.

ورغم نفي الحكومة تكرارًا ومرارًا هذا الأمر، اعتُبر صعود بول ميل وعلاقاته الخارجية عاملاً قد يدفع بهذا المشروع إلى دائرة النقاش مقابل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ولا سيما مقايضة رفع العقوبات الدولية المفروضة عليه من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وحظر الأسلحة المفروض على البلاد منذ 2018.

التدخل الأوغندي

 رغم وجود بعثة أممية ضخمة، بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان (يوناميس) التي يصل عديد قواتها إلى 15 ألف عنصر، استعانت جوبا بالقوات الأوغندية التي انتشرت منذ مارس/آذار 2025 بذريعة حماية العاصمة في خضم تصاعد التوتر مع النائب الأول للرئيس (رياك مشار) السابق.

غير أن تدخل أوغندا أثار مخاوف من أطماع توسعية في أراضي جنوب السودان وانتهاكات لحقوق الإنسان، وزاد من تعقيد المشهد الأمني. فيما عُدّ هذا التدخل انتهاكاً لقرار حظر إدخال الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة وفقًا للقرار 2428 (2018)، وفقًا لتقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بجنوب السودان الصادر في تموز/يوليو الماضي.

 بعد أربعة عشر عامًا من "الاستقلال"، يقف جنوب السودان كنموذج لدولة فاشلة تحكمها نخبة "أوليغارشية" جشعة غارقة في الفساد، بينما يعيش شعبها تحت خط الفقر والحرمان.

الدولة التي وُلدت على أنقاض أطول حرب أهلية في أفريقيا، كما تمت الإشارة، لم تتمكن من تحقيق السلام أو التنمية، بل غرقت في دوامة العنف، والفساد، والحكم الفردي.