جورج إبراهيم عبد الله... وراء العدو في كل مكان

كان على جورج عبد الله أن يقضي سنين كثيرة في السجن والمنفى، لأن مثله يعرّفون المعنى ويعيدون تشكيله، يتضاءلون، ولكن لا ينقرضون، ولا تخلو منهم الأرض أبداً.

0:00
  • جورج عبدالله.. الحكاية والرمز.
    جورج عبدالله.. الحكاية والرمز.

في الأساطير التاريخية، يميل المؤرخون إلى الحديث عن الأبطال بحبكة متقنة لا تفتح مجالاً للتعليق على أي أداء في شخصياتهم، ويحاولون تجميل الأخطاء، إن وجدت، لتسبك الرواية بطريقة مثالية، تجعل التعليق على أي ثغرة أمراً ثانوياً، ما دامت محددات البطولة بارزة وموجودة، لا ضرورة لتعكير المشهد.

هذا في التاريخ، حين يكون "الأبطال" بمعظمهم قد لقوا حتفهم منذ مئات السنين، أو بعضها، وترفّعوا بالمعنى الزمني للكلمة، عن الخلافات والتحالفات والاصطفافات والنفعية، وخفت صوت معارضيهم وانتفت معها أسباب المحبة والكراهية اللحظوية، في هذه اللحظة السوريالية، يولد البطل أو الخائن، وتمجّده الروايات وتزيد في جماليته الأساطير، ويبدأ التاريخ عمله.

أما الأبطال المعاصرون اليوم، أو منذ زمن ليس ببعيد، فمهمة التاريخ والشعوب في صناعتهم وتأريخ مسيرتهم أكثر تعقيداً، نحن (كشعوب وقبائل ودول وأفراد) نراقب ونسجّل ماذا جرى ويجري، من الذي وقف في وجه السلطان الجائر، ومن الذي ضحّى بعائلته وماله ورفاهيته وشبابه وربما بحياته من أجل أن يقول كلمة الحق؟ وهل يستوي "من قال نعم في وجه من قال كلا"؟ 

هذه الـ "كلا" يصل صداها من كل أنحاء العالم، من كل المعذبين والمضطهدين في الأرض، وهي نفسها التي جعلتنا نسمع برجل يدعى جورج إبراهيم عبد الله، مواطن لبناني أحب البلاد على طريقته الثورية، فدافع عنها أكثر من 40 عاماً.

الرجل الذي كان "مريضاً بحبه لفلسطين" كما وصفته لجنة الإفراج المشروط التي كانت تخضعه لفحص نفسي مرة كل عام لترى إن كان مؤهلاً للإفراج، لم يكن "مؤهلاً" بحسب التوصيفات الغربية التي نسفت قوانين "العدل والإنصاف"، وغضّت الطرف عنها لأنها ببساطة لا تستوفي الشروط الأميركية والإسرائيلية.

حكاية جورج

ولد جورج إبراهيم عبد الله في قرية القبيات العكارية عام 1951، تابع دراسته في دار المعلمين في الأشرفية وتخرج في عام 1970. التحق بصفوف المقاومة الوطنية، ثم بصفوف المقاومة الفلسطينية دفاعاً عن المقاومة وعن الشعبين اللبناني والفلسطيني، وجرح خلال المعارك ضد "إسرائيل" أثناء الاجتياح عام 1978.

وتحت شعار "وراء العدو في كل مكان"، أسّس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وتمكّن مع رفاقه من وقف إمداد العدو الصهيوني بالسلاح من خلال عمليات دقيقة موجهة ضد عسكريين وليس دبلوماسيين ومدنيين كما رُوّج في حينها.

اعتقل عبد الله في مدينة ليون الفرنسية عام 1984، وحُكم عليه بالسجن أربع سنوات بتهمة حيازة جواز سفر جزائريّ مزور. علماً أن الحكومة الجزائرية أعلنت أنها هي من منحه هذه الوثيقة. وبدأت منذ حينها مسيرة نضاله التي بدأت بعدم اعتراضه على الحكم، لا لأنه يوافق عليه، بل لأنه يرى أن هذه المحكمة فاقدة للشرعية، وأن فرنسا شريكة في العدوان على بلاده أساساً.

بقي جورج صامداً "ووراء العدو في كل مكان" وتحوّل لاحقاً إلى رمز في وجه الاستبداد والأحكام الجائرة، وبقي يقاوم، من وراء الزنزانة، بقي يقاوم. ثباته كان مقاومة، وصموده وراء القضبان من دون أن تميل مواقفه كان مقاومة، والبقاء على قيد الحياة في ظل كل ما تعرّض له من خيبات كان مقاومة.

سُربت أحكام كثيرة منذ 40 عاماً تدّعي أنه سيتم الإفراج عن جورج قريباً، فانتظر وانتظرنا، لكن الاستئناف كان يقف في وجهنا جميعاً، لنعود وننتظر حتى أصبح جورج أقدم سجين سياسي في أوروبا. ولنا أن نتخيل وقع الخيبة في كل مرة على قلبه وقلب عائلته، ومن ورائهم آلاف المحبين لجورج الرمز والبطل، الذي يذكّرنا في كل مرة وقف فيها أمام المحكمة أن الإنسان القيّم، صاحب الأصول والمبادئ لم يمت بعد، حتى في زمن شاع فيه زمن الإنسان الآلة، وساد وطغى.

مباشرةً إلى لبنان

القضاء الفرنسي، أمر الخميس بالإفراج عن عبد الله. وبناء على القرار، سيفرج عنه في تموز الحالي، لكن اللافت كان حديث محامي جورج، جان لوي شالانسيه، الذي قال لوسائل الإعلام إن "المحكمة أيدت الحكم الصادر بالإفراج المشروط، أي أن على الناشط عبد الله، مغادرة فرنسا في 25 يوليو/تموز الجاري، وهو يوم إطلاق سراحه إلى لبنان".

هذا يعني أنهم لا يريدون لجورج أن يوجّه كلمة أو خطاباً أو أن يكون حراً لدقائق على الأراضي الفرنسية، وهذا مفهوم (بمنطق  الإعلام الغربي)، الذي يرى أن البطل لا يكون بطلاً إلا إذا قال نعم للشروط الغربية، ومجّد حقوق الإنسان في العلن، ونكأ ببنودها في السر.

ولا يكون البطل بطلاً إلا إذا أزاح بوجهه عن الاستعمار وارتضى باحتلال الشعوب ومصادرة أرزاقها. ولا يكون البطل بطلاً إذا كان "معادياً للسامية" وغير محب لـ "إسرائيل" وجرائمها. ولا يكون البطل بطلاً إذا لم يصادق على أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب فجاء الإسرائيليون الطيبون خفيفو الظل ليسكنوا فيها، بصرف النظر عما أحدثوه من نكبات وإبادات متتالية، وبصرف النظر عن صحة هذه الكذبة التاريخية بالأصل.

بهذا المعنى، لن يكون مسموحاً لجورج أن يخطب من قلب فرنسا، البلد الذي يصدّر العطور والديمقراطيات، وعلى مراسم إطلاق سراحه أن تكون خاطفة لا تظهر عليها أي ملامح تعكس ثباتاً في الموقف والمنهج، وإلا ستعترف باريس، ومن يقف وراء قرارها بسجن جورج 40 عاماً، أنها لم تستطع "تأديب" الرجل، وبهذا، يضيع المعنى الذي سجن لأجله، وسيترسخ معنى جديداً لا تسمح به ماكينات الإعلام الغربي. وبالمعنى نفسه سيخرج جورج عبد الله بطلاً رفض الاستعمار فعلاً، ثم رفضه قولاً.

سيخرج منتصراً على السرديات الغربية، ومؤسساً لجيل يتعلم كل يوم أن القضبان لا تنتقص من قيمة الرجال ما دامت  "التهمة" وطنية.

سيخرج وسيكون رمزاً للنضالات القومية واليسارية والوطنية، التي تحلم بأن تحقيق العدالة على الأرض أمراً ليس بمستحيل.

وسينتظره كثيرون ممن يؤمنون بأن الاستعمار ليس قدراً، وأن ما على الشعوب إلا المواجهة.

سينتظره كثيرون للكشف عن مزيد من حكايات الكدح والتأسيس. حكايات ما سيُصبح، لاحقاً، تاريخ قوم استثنائيّين قالوا "لا"، عل الرغم من محاولات العالم لإرغامهم على قول "نعم".