حين تتحدث الدبلوماسية بلغة الحرب

هل يقوم ترامب الآن بممارسة دور المهرج إلى حين اتخاذ قرار الحرب ضد الجمهورية الإيرانية أم أن المعلومات حول قوة إيران العسكرية ستجعل الإدارة الأميركية ترجع خطوة إلى الوراء؟

0:00
  •  أظهرت الأحداث كيف يمكن للمفاوضات أن تكون ساحة خداع قد تؤدي إلى نتائج غير متوقّعة!
    أظهرت الأحداث كيف يمكن للمفاوضات أن تكون ساحة خداع قد تؤدي إلى نتائج غير متوقّعة!

لعب الخداع دوراً محورياً في الحروب بين بلدان العالم، دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، إذ استخدمت كثير من الدول استراتيجيات متنوّعة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، سواء عبر التلاعب بالمعلومات أو من خلال تقديم وعود زائفة، كي تتجهّز للانقضاض على الخصم، وهذا ما يبدو في الحالة الأميركية-الإيرانية، خصوصاً مع تصاعد تصريحات الرئيس ترامب مؤخراً بشأن استعداد الولايات المتحدة للعمل العسكري، إذا لزم الأمر.

وقد أظهرت الأحداث التاريخية كيف يمكن للمفاوضات أن تكون ساحة خداع قد تؤدي إلى نتائج غير متوقّعة، وهو ما يدفع إلى قراءة المفاوضات الأميركية -الإيرانية حول مشروع الأخيرة النووي، والتي تجري عبر طرف ثالث وهو سلطنة عُمان. 

ولأن قراءة التاريخ تمنح الساسة فرصة لمعرفة آليات الخصم وسلوكياته، فإن كل ما يجري اليوم، يظهر محاولة إدارة ترامب -التي لطالما قامت بتهديد إيران- إلى احتواء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما يظهر عكس ما تبطن أميركا و"إسرائيل"، فهي في ما يبدو محاولات لكسب الوقت من أجل الحصول على معلومات أكبر وأكثر تتعلق بأنفاق الأسلحة والذخائر وأماكن إطلاق الصواريخ فرط الصوتية والطائرات المسيرة والقنابل التكتيكية، بالإضافة إلى معرفة أماكن عمل أجهزة الطرد المركزي، وكذلك أماكن وجود القيادة الإيرانية العسكرية والأمنية والسياسية، بالإضافة إلى تضليل الحرس الثوري الإيراني وتشتيت انتباهه من التحركات الأميركية الحالية في المنطقة، عدا عن استنزاف الأجهزة الأمنية لإيران، وكذلك إضعاف الدولة الإيرانية برمّتها، نفسياً وسياسياً، لأجل الوصول إلى نقطة الهجوم، والانقضاض على تلك الجمهورية التي تمثل صمام أمان للفكر التحرري المقاوِم أمام الخنوع العربي الرسمي. 

وبالعودة إلى الوراء قليلاً، يمكن قراءة الخداع العسكري من خلال ما جرى في السابع من أكتوبر 2023 عندما أوهمت حركة حماس الجانب الإسرائيلي بانخراطها في تفاهمات عبر قطر مقابل الهدوء، حتى حانت ساعة الصفر وتمت العملية التي هزت المنطقة، وما تزال ارتداداتها حتى هذه اللحظة، وقد تستمر إلى وقت طويل. 

أيضاً قبيل اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، قامت مصر وسوريا باتخاذ إجراءات تهدف إلى تضليل الكيان الصهيوني لأجل إحكام خطتهما العسكرية، من خلال تحركات روتينية وتصريحات مطمئنة خصوصاً بعد نكسة حزيران، لكنها قامت بتلك الحرب في يوم الغفران اليهودي، حيث نجحت من خلالها القوات المصرية عبور قناة السويس وتحطيم خط برليف. 

أيضاً لا يمكن إغفال الحديث عن الهجوم الياباني على بيرل هاربر في هاواي عام 1941، حيث وصل التوتر بين اليابان والولايات المتحدة الأميركية إلى أشدّه، بسبب التوسع الياباني في آسيا، فقد فرضت الولايات المتحدة حصاراً اقتصادياً على اليابان، خصوصاً في ما يتعلق بالنفط. لأجل ذلك، أرسلت اليابان وفداً دبلوماسياً إلى واشنطن للتفاوض ظاهرياً حول آليات رفع الحصار، في الوقت الذي كانت فيه خطط الهجوم جاهزة، حيث دمرت اليابان جزءاً كبيراً من الأسطول الأميركي في المحيط الهادئ، الأمر الذي جعل الأخيرة تعلن الحرب في اليوم التالي، وتدخل الحرب العالمية الثانية بكامل قوتها، وقد أدت تلك الخطوة إلى سقوط اليابان بعد أربع سنوات من ذلك الهجوم. فهل خطط الهجوم الأميركي على الطاولة الآن؟ وهل يقوم ترامب الآن بممارسة دور المهرج إلى حين اتخاذ قرار الحرب ضد الجمهورية الإيرانية أم أن المعلومات حول قوة إيران العسكرية ستجعل الإدارة الأميركية ترجع خطوة إلى الوراء كما جاء تصريح ويتكوف بالأمس، لأجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة؟ 

وبالعودة إلى اتفاقية ميونخ عام 1938، حين قام هتلر بخداع أوروبا كلها، من خلال حديثه لهم كزعيم عقلاني يريد حقوق الأقلية الألمانية من خلال ضم إقليم سوديت التابع لتشيكوسلوفاكيا، ولا يطلب المزيد، وقد تم توقيع تلك الاتفاقية من دون حضور الأخيرة، حيث تم توقيع الاتفاقية مع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ثم بعد ستة أشهر، اجتاح هتلر كامل تشيكوسلوفاكيا، ليثبت أن التفاوض مع الطغاة من دون قوة وهم خطير. 

المفاوضات الجارية اليوم، ليست سوى مجرد محاولات لكسب الوقت، لضمان نجاح عمليتهم العسكرية وإنهاء القوة الإيرانية، لأن امتلاك الأخيرة للسلاح النووي يعني دخولها إلى ملعب الكبار، وأن "دولة" الاحتلال يجب أن تظل المهيمن في منطقة الشرق الأوسط لأجل تنفيذ مخططات الاستعمار الرأسمالي ومصالحه. لذلك، عمدت أميركا إلى استهداف الحوثي بشكل دوري وتهديد المليشيات العراقية المقاوِمة والاستفراد بحزب الله وحماس، للوصول إلى الاستفراد بالجمهورية، وإلا فلماذا يعلن الإعلام العبري كل يوم عن زيارة مسؤولين أمنيين أميركيين إلى "دولة" الاحتلال، معظمهم من قطاع الاستخبارات للجلوس مع كبار المسؤولين الإسرائيليين؟ 

لقد انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 إبان وجود ترامب في الحكم، وفرضت عام 2018 عقوبات صارمة على إيران، فردّت الأخيرة على ذلك بتقليص التزاماتها النووية، الأمر الذي عاد بترامب إلى مزيد من التهديد والوعيد لجمهورية حافظت على قوتها كدولة ذات هيبة في المنطقة، أمام انهيار الوعي والقوة العربية، من خلال تطوير وصناعة الجديد في الأسلحة والطيران العسكري وتشكيل تحالفات جديدة وشراء أسلحة من الدب الروسي، فهي تؤمن أنك إن أردت السلام، يجب أن تكون مستعداً للحرب، وإلا فإنك تقع فريسة لاستعمار يريد تدمير الثقافة والهوية الإسلامية، فارسية أو عربية أو حتى عثمانية. 

ولعل إيران تدرك جيداً أن هذه المحادثات ليست سوى فزاعة أمام التجهيز لضربة قوية، قد تنطلق من القواعد الأميركية الموجودة في الدول العربية، بالإضافة إلى وجود حاملات الطائرات في المنطقة، ولعلّها تتجهز اليوم من خلال أجهزتها الاستخبارية ووسائل الرصد إلى تعزيز كامل قوتها للرد الفوري على أي عدوان قد يجري على الأرض تجاه تلك الدولة التي تمثل صمام الأمان لكرامة الأمة وحريتها.

وفي الختام، إن ما يمكن أن يدفع الأميركي والإسرائيلي إلى التوقف عن العبث مع إيران هو مصدر قوة الجمهورية وتعاظمه، لذلك لا بد من المزيد من الوعي والتحصين والتحشيد لمحور المقاومة ولحركات التحرر المطوّقة لـ"دولة" الاحتلال، وعقد المزيد من التحالفات مع البلدان المعادية للمعسكر الرأسمالي، ومحاولة إعادة الثقة والبناء مع الدول الإسلامية التي تمتلك ترسانة نووية، خصوصاً باكستان. 

ولعل المأمول بالنسبة إلى الفلسطيني الذي يصارع الموت كل يوم، واللبناني الذي يعيش في أزمات بسبب الاحتلال الإسرائيلي، والسوري الذي يجري تقسيم أراضيه إرضاء للاستعمار الإمبريالي هو تشكيل تحالف عربي-إسلامي يمكنه الذود عن الأرض العربية، وبناء حلف عسكري متين يشبه حلف "الناتو" أو حلف "وارسو" أو غيره. المأمول لكل هؤلاء أن تظل إيران قوية لأنها صمام الأمان الوحيد في المنطقة لمشروع دحر الاحتلال، أمام الخذلان العربي والإسلامي، الرسمي والشعبي.