رهانات الشرع السياسية.. والنموذج التركي الحاضر بقوة

الأوضاع في سوريا تتجه نحو نموذج حكم مستقر محافظ دينياً، يغادر العباءة الجهادية قليلاً باتجاه التماس مع أفكار حزب "العدالة والتنمية" التركي، من دون الاضطرار إلى مساومات مع التيار العلماني.

  • توظيف الصراعات والاستفادة القصوى من التوتّر في المنطقة.
    توظيف الصراعات والاستفادة القصوى من التوتّر في المنطقة.

منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى دمشق، عمل أحمد الشرع على خلع عباءة "الجولاني" ليُقدّم نفسه لأهل الشام والعالَم بصورة مختلفة عن الصورة التي عهدوه بها، ومع مرور الوقت، صار من النادر أن يُنادى الرجل - صاحب البذلات الأنيقة وساعات اليد المنتقاه بعناية - بأبي محمد الجولاني، حتى يكاد الاسم يُنسى.

«اختفى سليل تنظيم القاعدة وبدأت النسخة المُصغّرة من رجب طيّب إردوغان»، تلك العبارة التي اختصرت شهوراً من العمل على إعادة رَسم شخصية الطالب الذي هجر دراسته، وذهب للقتال في العراق ما بعد عام 2003، لينتهي به الحال "أميراً" على العديد من مناطق إدلب "المُحررة من سلطة النظام" في عام 2017، وبين هذا وذاك ينخرط في تشكيلة من التنظيمات السلفية الجهادية بدأت بـ"القاعدة" ثم "داعش" (التي انبثقت بدورها عن القاعدة) وانتهاءً بـ"جبهة "النصرة، التي ضمّها لاحقاً إلى "هيئة تحرير الشام"، واستلم عبرها السلطة.

اكتسب الجولاني/الشرع ووزراء حكومة الإنقاذ خبراتٍ لا يمكن الاستهانة بها خلال الفترة التي قضوها في إدلب، مستعينين بدعمٍ من المخابرات التركية، التي حاولت في بعض المراحل التخفيف من حدة التوتر بينهم وبين "الحكومة السورية المؤقتة"، وهي كيان شكلته المعارضة بإشراف أنقرة لإدارة شمال سوريا، واتخذت من مدينة أعزاز في حلب مقراً لها.

أدار الجولاني ورجاله المناطق الخاضعة لهم إدارة فعليّة من تحصيل الضرائب إلى تقديم الخدمات، حتى أنهم مارسوا أدواراً أمنية متشددة على المستوى السياسي ضد خصومهم، تطابِق ما تقوم به أي حكومة تُوصف بالاستبداد من قبل أنصار "الربيع العربي"، واللافت أن الخصوم غالباً ما كانوا ينتمون إلى البيئة السلفية الجهادية، لكنهم إما نافسوا على الحكم أو تبنّوا أطروحات مختلفة للإدارة.

لا يتبنى النظام الجديد في سوريا أي برنامج عمل قد يُزعج الغرب، حتى على المستوى الاقتصادي، فهو يتجه بصورة لافتة باتجاه تحرير الاقتصاد والحدّ من دور الدولة وخصخصة الأملاك العامة وتسريح الموظفين الحكوميين وبيع الموانىء والمصانع ومرافق البلاد الحيويّة، ويتندّر الوزراء الجُدد على كل ذاك "الإرث الاشتراكي" الذي بناه "البعثيّون بمعاونة السوفيات".

في المقابل، يعيش المواطن السوري حالة ارتباك إزاء تقييم تلك القرارات، خصوصاً عندما يهمس له رجال النظام بأن تلك القرارات هي ما "يجلب رضى العواصم الغربية، ومن ثمّ يتم رفع العقوبات"، ويبحث الاتحاد الأوروبي بالفعل إمكانية تعليق جزئي للعقوبات المفروضة على صناعة الطاقة في سوريا، بما في ذلك إلغاء الحظر على استيراد النفط الخام، وتصدير التكنولوجيات لصناعة النفط والغاز.

اللافت أنّ المتحدثين في وسائل الإعلام يُسقطون من ذاكرتهم عمداً أن النظام السوري السابق، كان قد أنجز شوطاً طويلاً خلال سنوات ما قبل سقوطه في اتجاه تطبيع العلاقات مع مختلف دول العالم شرقاً وغرباً، وأوشك على تحقيق هذا "الرفع الجزئي للعقوبات" لولا سقوطه، لكن الشارع السوري معذور في اشتياقه لرفع العقوبات، لأنه يدرك ما فعله قانون "قيصر" في البلد من إفقارٍ وإذلال، ذلك القانون الذي أصدرته الإدارة الأميركية عام 2020، بعد أن "ناضلت" الدوحة طوال سنوات لإقراره، فهي التي احتضنت ما ادّعت أنه صور تخصّ عمليات قتل وتعذيب داخل السجون السورية، التُقطت بواسطة مساعد سابق في الشرطة العسكرية، أعطته اسماً مزيفاً هو: قيصر، ثم أنفقت على إعداد هذا "الملف الحقوقي"، وروّجت له عبر مسؤولين أوروبيين سابقين، حتى احتضنه الكونغرس في نهاية المطاف.

عوامل السقوط.. وانتهاز الفُرَص

كان سقوط دمشق يوم 8/12/2024 يعني أن محور المقاومة خسر حلقته المركزية في المنطقة، بالضبط كما تحدث رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في خطابه الشهير الذي أعلن فيه انهيار اتفاق فض الاشتباك في الجولان، وبداية التوغّل في الأراضي السورية، ناسباً الفضل في سقوط نظام الأسد إلى الضربات التي وجهتها قوات الاحتلال إلى سوريا وإيران وحزب الله.

تعي "هيئة تحرير الشام"، التي كانت قد أصبحت إدارة العمليات العسكرية المشتركة، حقيقة الظروف التي أوصلتها إلى حكم البلاد، وتُدرك جيداً أن قادة "تل أبيب" عندما يُوجهون خطاباً إلى "شعبهم" فإنهم، ببساطة، لا يكذبون.

الحقيقة أنه على الرغم من وجود معارضة حقيقية للنظام السوري السابق، وطالما ناضلت لاكتساب حقوق سياسية مشروعة، فإن سقوط النظام بتلك الصورة الصادمة نتاج عوامل أخرى، ليس من بينها ذلك النوع من "النضال السياسي المدني"، ومن المهم التذكير بتلك العوامل:

أولاً: الإرهاق الذي لحق بمؤسسات الدولة كافة نتيجة الحرب الطويلة مع التنظيمات السلفيّة المسلحة، والتي استقبلت تمويلات ضخمة من بعض الأنظمة الخليجية، وعبر إليها ألوف المقاتلين عبر الحدود التركية.

ثانياً: العقوبات الأميركية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل، وتسببت في تآكل القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام بعد عجزه الفاضح عن توفير الخدمات أو ضمان توافر السلع في الأسواق.

ثالثاً: سيطرة القوات الكردية، التي تحميها الولايات المتحدة الأميركية، على النسبة الأكبر من آبار النفط في البلاد، والتي تتركز في مناطق شرق وشمال شرق سوريا، ما أثر سلباً على إيرادات الدولة السورية.(إنتاج سوريا قبل عام 2011 كان يبلغ 380 ألف برميل يومياً، نصفه يوجد في محافظة الحسكة التي سيطرت عليها قوات "قسد")

رابعاً: الصعوبات التي واجهت محور المقاومة بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، واستشهاد العديد من عناصر حزب الله مع تفجير الموساد الإسرائيلي المتزامن لأجهزة النداء "البيجر" التي كان يستخدمها عناصر الحزب في 17/9/2024، ثم تلا ذلك استشهاد الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، ومن بعده خليفته في المنصب السيد هاشم صفي الدين.

خامساً: الخلل الاجتماعي وانتشار الرشى وشيوع صور الفساد، وهو أمر من المعتاد أن تشهده الدول عند حدوث هذا النوع من الحروب الداخلية، خصوصاً إذا كانت مصحوبة بتدهور اقتصادي عنيف وعروض مالية مستمرة من الخارج لشراء الولاءات.

سادساً: ارتياح محور أعداء النظام السوري وتماسكه في مقابل الضغوط التي كانت تحاصر حلفاء النظام، إذ واجهت روسيا تحدياً مريراً في أوكرانيا كان من الطبيعي أن يؤثر سلباً على دعمها للجيش السوري، كما حوصرت طهران بالعقوبات الاقتصادية، وفقدت رئيسها، المنتمي إلى التيار المبدئي، إبراهيم رئيسي في 19/5/2024.

يعي النظام السوري الحالي تلك العوامل الستة التي أفضت إلى سقوط الأسد، لكنه يضيف إليها عاملاً سابعاً يتعلق بدهائه وحُسن رصده للوضع المحلي والإقليمي ما دفعه إلى انتهاز الفرصة، ومواصلة السير إلى دمشق، وعدم التوقف عند الحدود الشمالية لمحافظة حماة، كما راهن الجميع، وقد تسبّب هذا التمدد المفاجىء في إرباك حقيقي لقوات الجيش، ومن ثمّ فقدان القدرة على التعامل مع الموقف، من دون استبعاد عمليات شراء الذمم التي طالت عدداً من القادة العسكريين، وأدّت إلى مزيد من التخبّط وانفلات الأمور.

توظيف الصراعات والاستفادة القصوى من التوتّر في المنطقة

يبني أحمد الشرع نظامه الجديد اليوم على أنقاض نظامٍ، قد اختبر ميدانياً عوامل سقوطه، وهو يريد أن يربح جميع الأطراف في المنطقة من دون أن يضع رأسه تحت مقصلة أحد.

في المقابل، فإن الطرف الوحيد الذي لم يتردد في إعلان التباعد عنه، هو محور طهران. في أيام حكمه الأولى، تقريباً لم يفوّت رئيس سوريا الجديد فرصة من دون أن يبدي امتعاضه من الدور الإيراني، مع نقد متكرر لحزب الله، امتد مع الأيام إلى اشتباكات متكررة ضد ما يُزعَم أنها مجموعات تابعة للحزب تنشط على الحدود السورية- اللبنانية.

"جبهة النصرة" خيمة الشرع وملاذه، استقبلت في كل مراحلها دعماً قطرياً، وإعلاميو الدوحة وناشطو جماعة الإخوان كانوا أشدّ المدافعين عن الشرع بمجرد دخوله دمشق، وهذا تحديداً ما أصاب الرياض بالقلق، فهي لا تريد أن تسقط دولة بحجم سوريا في قبضة الدوحة التي تناكفها على "الزعامة العربية" منذ منتصف التسعينيات تقريباً، لكنّ النظام السوري الجديد عمل على استرضاء النظام السعودي عبر إعلان الخصومة مع إيران، وعبر حشد قواته باتجاه الحدود مع لبنان، وكلها رسائل استقبلتها الرياض بالاستحسان، فكانت زيارته الرسمية الأولى إليها، بتاريخ 2/2/2025، وبعدها طار إلى أنقرة ليلتقي الرئيس التركي، في لقاء يعكس عمق انسجام الطبائع قبل تلاقي الأفكار.

يراهن النظام السوري الجديد على الثبات النفسي الذي يتمتع به قائده، ويظهر في صوته الرزين وإطلالته الجذابة وثقته في قدراته، وهي كلها عوامل بالغة الأهمية على المستوى الشعبي، إذ تجذب الجماهير من أسس عاطفية؛ لكن على مستويات سياسية أعمق، فإن النظام يراهن ببساطة على قدرته على الاستفادة بالحد الأقصى من كل فرصة تضمن له صداقة قطر والسعودية والإمارات، باعتبارها أهم ثلاثة أنظمة على المستوى العربي، لديها القدرة المالية والإعلامية للتأثير خارج حدودها، ولديها علاقات متينة في الإدارة الأميركية، ما يضمن لقادتها حرية حركة أكبر، ما دام الهدف لا يتناقض مع مصالح واشنطن.

أما المصالح التركية فهي حجر الزاوية بالنسبة إلى نظام الشرع، ومن رابع المستحيلات أن يُسمع حديث سوري اليوم يدين الوجود التركي العسكري في شمال البلاد أو يطالب أنقرة بالتوقف عن رفع أعلامها على الأراضي السورية كما كان يُصرّ نظام الأسد.

في العلاقة السياسية مع واشنطن، فهو يبعث رسائل طمأنة متتالية إلى "تل أبيب"، وتطبيع العلاقات تبعاً لهذا السيناريو ليس مُستبعداً، حتى لو تم تغليفه بعبارات عن "الحق الفلسطيني"، كما أن دمشق اليوم غاية ما تطمح إليه أن ترفع الإدارة الأميركية العقوبات، وأن تضغط على قوات "قسد" لتتقاسم معها العوائد النفطية، وأن يتم خفض المساحة التي تسيطر عليها إلى أقل من 20٪ من الأراضي السورية، لكنها لا تحمل للقوات الكُردية العداء ذاته الذي يكنّه التركي لها.

ورغم أن رجال الشرع على مواقع التواصل يكشفون عن موقف معاد للإدارة المصرية، فإن هذا لم يمنع دمشق من توقيف أحمد منصور، وهو جهادي مصري كان يقاتل مع "جبهة النصرة"، ثم دعا إلى تكرار السيناريو السوري "الثوري" في مصر، وهي رسالة تعاملت معها الدولة المصرية بإيجابية، خصوصاً في ظل انفتاح الرياض على نظام الشرع، ولا يَخفى أن الرياض هي أهم حليف إقليمي للقاهرة اليوم، خصوصاً في ظل أزماتها الاقتصادية المعتادة.

في المحصّلة، يسعى النظام السوري الجديد لتثبيت أركانه في الداخل، لكنه يدرك أن هذا الأمر غير ممكن، إلا بتأمين نفسه خارجياً ضد القوى التي يمكن لها فعلياً إثارة القلاقل وافتعال الأزمات، كما أن سياساته في المجمل تقوم على تحاشٍ تام لأي صدام مع القوى الغربية، في أهم ملفين، وهما:

- العلاقة مع "إسرائيل"

- تبني أجندة اقتصادية تتأقلم مع رؤية صندوق النقد الدولي.

لا يمكن إغفال أن الأمور في سوريا تتطور على نحوٍ مذهل بما يتوافق مع طموحات الشرع في ضمان حكم مستقر للبلاد (أو قدر كبير منها)، خصوصاً بعد أن اطمأنت "تل أبيب" إلى الأوضاع، وسيطرت على المواقع الاستراتيجية التي طمحت إليها في الجنوب وعلى مقربة من الحدود مع لبنان، ودمّرت كامل معدّات الجيش، ولم تسمع لغة إدانة قوية لأفعالها، أما العواصم الخليجية الكبرى، فجميعها قد ضمنت مصالحها بقدرٍ متفاوت، و"أبو ظبي" فهي الأقل من حيث المكاسب، لكن في المُجمل لا يوجد أي نظام عربي لديه طموح للتحريض على فوضى هناك أو إحداث مشكلات عميقة للنظام الجديد، ولدى الأنظمة الملكيّة العربيّة مباراة خاصة مع الأنظمة الجمهورية، وهي تربحها جولة بعد أخرى.

هذا بدوره يدحض التحليلات السياسية التي تنبأت بفوضى في سوريا شبيهة بالوضع في ليبيا. فكل السيناريوهات تقول إن الأوضاع تتجه نحو نموذج حكم مستقر محافظ دينياً، يغادر العباءة الجهادية قليلاً باتجاه التماس مع أفكار حزب "العدالة والتنمية" التركي، من دون الاضطرار إلى مساومات مع التيار العلماني، تقود النظام شخصية كاريزماتية، متفاهم مع العدو الصهيوني وراض عن تقسيم البلاد، بما أنه تم ضمان تقاسم الثروة، لكن الأخطر أن هذا النوع من الأنظمة سيكون مُربكاً للجماهير العربية، لأنه سيبدو للناظر من بعيد نموذجاً جيّداً ولامعاً وقابلاً للتصدير وإعادة الاستنساخ!.