محددات الموقف الصيني من تطورات الأحداث في سوريا
الرئيس الشرع أرسل رسائل إيجابية إلى بكين، حين أعلن موقفه من الحزب الإسلامي التركستاني الشرع قائلاً: "أنا أتعاطف معهم، لكن نضالهم ضد الصين ليس نضالنا".
-
سوريا في الاستراتيجية الصينية.
تلتزم الصين في سياستها الخارجية "الحياد الإيجابي" المتوافق مع مبادئ الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية من دون انحياز إلى طرف على حساب آخر.
ترى بكين أنها في سياستها الخارجية أكبر من أن تكون "مع أو ضد"، وأن قراراتها ومواقفها تأتي معبّرة عن مصالحها وأهدافها من دون الأخذ بأي اعتبارات أخرى. هذا الحياد جعل البعض يرى أن مواقف الصين كثيراً ما تكون غامضة، أو أنها غير شجاعة على أقل تقدير، فتتّهم الصين بالتردد والحذر وعدم القدرة على الفعل.
تحرص بكين على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، لقناعتها بأهمية السلام ونبذ الحرب طريقاً لتحقيق التنمية والعدالة، والوصول إلى مستقبل أفضل للبشرية.
ترى الصين أن الدول ليست سوى "جيران في عالم واحد"، فما يحدث في دولة ستصل ارتداداته إلى باقي الدول، وأن العزلة لم تعد ممكنة في عالم اليوم وما يتسم به من تداخل كبير بين مكوّناته. الحديث عن الصين يعني الحديث عن التنمية والبناء لا الحروب والتوترات، وبالتالي فإن الدول ذات "الاقتصاد الحربي" لن تتوافق مع السياسة الصينية بكل تأكيد.
سوريا في الاستراتيجية الصينية...
سوريا دولة هامة لبكين، باعتبارها حلقة في مشروع "الحزام والطريق"، وكانت جزءاً من طريق الحرير القديم. العلاقات بين البلدين تاريخية، لكن تطورها لا يتناسب مع العقود الطويلة التي مرت على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما والتي تعود إلى العام 1956.
كانت الزيارة الأولى للرئيس السابق بشار الأسد في العام 2004، ولم تتكرر إلا بعد مرور عشرين عاماً.
في أيلول/ سبتمبر 2023، استقبلت بكين بشار الأسد على هامش دورة الألعاب الشتوية، والتقى الرئيس الصيني في مدينة هانغتشو، ولم تتم استضافته في قصر الشعب ببكين، وكانت إقامته في أحد فنادق المدينة.
على الرغم من ذلك، فقد جرى الإعلان عن تطوير العلاقات بين البلدين لتصبح علاقات استراتيجية، لكن تلك الخطوة لم يكن لها أثر ملحوظ على العلاقات بين البلدين.
خلال الحرب في سوريا وقفت بكين إلى "جانب الشعب السوري وحماية الدولة السورية" وفقاً لرؤيتها، واستخدمت حق النقض "الفيتو" ضد عدد من القرارات التي رأت فيها مساساً بالشؤون الداخلية لسوريا.
موقف الصين ينطلق من احترامها لمبادئ الأمم المتحدة، وفي مقدمتها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
في أيلول/ سبتمبر 2012، استضافت بكين المعارض السوري عبد العزيز الخير، وسعت إلى لعب دور الوساطة بين النظام والمعارضة، لكن الرد كان سريعاً فقامت المخابرات السورية بخطف الخير فور عودته إلى مطار دمشق.
في العام 2015، وافقت بكين على قرار مجلس الأمن 2254، وهو القرار الذي ظل النظام السوري يرفض تطبيقه حتى سقوطه في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
وجود مقاتلين من الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا دفع بكين في العام 2016 إلى توقيع اتفاق للتعاون الأمني مع دمشق، تقوم بموجبه سوريا بتزويد الصين بتقرير شهري عن تحركات هؤلاء الإرهابيين، مقابل قيام بكين بتعيين مبعوث خاص لها إلى سوريا.
في العام 2021، وعند إعلان "فوز بشار الأسد في الانتخابات" لولاية رابعة كان وزير الخارجية الصيني وانغ يي أول المهنئين له في دمشق، وأعلن حينها أنه يجب على الجميع التخلي عن فكرة إسقاط النظام.
منذ بدء عملية "ردع العدوان" بقيادة "هيئة تحرير الشام" والهجوم على مدينة حلب، أعلنت بكين رغبتها في لعب دور إيجابي يحفظ الأمن والاستقرار في سوريا.
وبعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد، صرّح سفير الصين لدى الأمم المتحدة عن استعداد بلاده للاضطلاع بدور بنّاء في استعادة الاستقرار في سوريا، ما يعكس نية بكين للمساهمة في إيجاد حلول مستدامة.
المخاوف الصينية من وصول "هيئة تحرير الشام" إلى الحكم قد تبدو مبررة، خصوصاً أن هناك مقاتلين مع الهيئة من الحزب التركستاني الإسلامي.
وكان أمير الحزب عبد الحق التركستاني قد أصدر بياناً في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2024 أكد فيه سعي حزبه للتخطيط لمهاجمة بكين في المستقبل.
وكان الحزب التركستاني قد نفذ عمليات داخل الصين في الأعوام (2008-2013-2014-2015)، وهو مدرج على لائحة الإرهاب في الأمم المتحدة.
محددات الموقف الصيني من حكام سوريا الجدد...
لا تخفي بكين قلقها من "التعاطي مع جماعة إرهابية" (هيئة تحرير الشام)، وفق العديد من التصنيفات العربية والأوروبية والأميركية. وما يزيد من المخاوف الصينية هو وجود عدد يقدر بـ 5 آلاف مقاتل آيغوري يقاتلون في سوريا مع "هيئة تحرير الشام".
وصول ترامب إلى السلطة يزيد من مخاوف بكين، خصوصاً أنه كان قد أزال اسم الحزب الإسلامي التركستاني من لائحة الإرهاب الأميركية في العام 2020، وأن هؤلاء لا يؤمنون بـ "الجهاد العالمي"، وبالتالي لا يشكلون خطراً على الغرب.
علاقة تركيا بـ"هيئة تحرير الشام" أمر تخشاه بكين، في ظل وجود 100 ألف آيغوري في تركيا، والدعم التركي لهم وبشكل معلن. ترى تركيا أن التركستان جزء من الأمة التركية، وكثيراً ما أدانت أنقرة "الاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون" من قبل الحكومة الصينية.
بكين تنفي هذه الاتهامات وترى أن سياستها لم تكن عدائية ضد المسلمين أو غيرهم، لكنها تقف بحزم ضد أي جماعة انفصالية وأي تنظيم إرهابي. ومن المفيد هنا أن نذكر أن هناك 10 قوميات مسلمة في الصين، فلماذا لم نسمع سوى عن اضطهاد الآيغور.
سعي الولايات المتحدة لتوجيه "الجهاد العالمي" ضد الصين...
سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى استنساخ النموذج الأفغاني ضد الصين، بعد أن نجحت في توظيفه ضد الاتحاد السوفياتي لمدة عشر سنوات (1979-1989) أدت إلى استنزاف الاتحاد السوفياتي اقتصادياً ومن ثم تفكيكه. التجييش ضد الصين والاتهامات الموجهة لها من قبل الولايات المتحدة باضطهاد المسلمين وصولاً إلى عرقلة نموها وتطورها.
بكين تعي ذلك جيداً، لذا فقد سعت إلى نفي تلك الاتهامات وفضحها عبر السماح لوسائل الإعلام الأجنبية والدبلوماسيين الأجانب بزيارة إقليم شينجيانغ.
سعي الصين لتحقيق المصالحة السعودية -الإيرانية أحد أهدافه إظهار دور بكين في تحقيق المصالحة بين أكبر بلدين إسلاميين مختلفين مذهبياً. الحضور الصيني في الشرق الأوسط بقي محدوداً ويركز على الجوانب الاقتصادية أكثر من غيرها، رغم حاجة العرب إلى دور صيني أكثر فاعلية.
رغبة بكين في عدم الانخراط في مشكلات الشرق الأوسط لاعتبارات أهمها أن فرص النجاح في التوصل إلى اتفاقات قد تبدو شبه معدومة.
بكين هي الشريك التجاري الأكبر للدول العربية، وكانت قيمة التبادل التجاري قد ارتفعت من 36.7 مليار دولار في عام 2004، إلى 398 مليار دولار في عام 2023، وهو صعود بنسبة تجاوزت الـ800%، خلال عقدين من الزمن.
تجاوز حجم الاستثمارات المباشرة بين الصين والدول العربية أكثر من 30 مليار دولار العام الماضي.
يمثل التبادل التجاري بين بكين والدول العربية 7% من تجارتها الخارجية مطلع هذا العام، وفي مقدمة تلك الدول قطر والعراق وعمان والإمارات ومصر والسعودية، وتمثل حصتها 84.8% من مجموع التبادل التجاري الصيني مع كل الدول العربية.
المعضلة الحقيقية في الشرق الأوسط أن بكين تجد نفسها في موقف دقيق يتطلب منها العمل على بناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف.
حكام سوريا الجدد ورسائل الطمأنة لدول العالم...
نجح حكام سوريا الجدد في تبديد مخاوف العديد من دول العالم، فأبدوا براغماتية كبيرة وقدرة على التحوّل من فكر الجماعة إلى فكر الدولة.
الوفود الدولية الكبيرة التي زارت دمشق تعكس مخاوف تلك الدول ورغبتها في الوقت ذاته بالتعاطي مع "رأس" واحد في دمشق.
وكان الرئيس الشرع قد أرسل رسائل إيجابية إلى بكين، حين أعلن موقفه من الحزب الإسلامي التركستاني الشرع قائلاً: "أنا أتعاطف معهم، لكن نضالهم ضد الصين ليس نضالنا". هذا الموقف لم يبدد مخاوف بكين، خصوصاً أن قائمة الترفيعات العسكرية الأخيرة والتي تضمنت 50 ضابطاً كان 6 منهم أجانب.
القلق الصيني يبدو أنه قلق مشروع، خصوصاً أن السياسات لا تبنى على أساس الأقوال فقط، وأن الأفعال وحدها هي الكفيلة بذلك.
وجود مقاتلين أجانب في سوريا وترقيتهم إلى مناصب رفيعة في الجيش السوري كان محط انتقاد في الداخل والخارج.
الكثير من السوريين يرى أنه لا مبرر لذلك، في ظل وجود نحو 6 آلاف ضابط منشق عن النظام جرى تحييدهم وعدم الاستعانة بهم.
كذلك كانت هذه الخطوة محط انتقاد من قبل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وبعض الدول العربية.
الموقف الرسمي السوري أن لهؤلاء فضلاً على الثورة السورية، وأن المرحلة الحالية تقتضي تحقيق الانسجام والتركيز على الولاء أولاً وقبل كل شيء.
مع الإشارة إلى وجود المقاتلين الأجانب في جميع الثورات، فإسبانيا شهدت أكبر عملية تجنيس في التاريخ الحديث بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وفرنسا لديها فيلق أجنبي في جيشها على غرار الجيش الانكشاري الذي كان موجوداً في الدولة العثمانية. كما يوجد اليوم في أوكرانيا عدد كبير من المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون ضد موسكو.
ما حدث في سوريا وسقوط النظام فيها، يفرض على الصين إعادة التفكير في استراتيجياتها الخاصة بالأمن الإقليمي وإعادة رسم دورها المستقبلي في سوريا.