زمن الصواريخ.. زمن طهران
لم تكن تلك الضربات الصاروخية المتعددة ردود فعل ظرفية، بل سلسلة عمليات دقيقة ومنسقة، شكّلت رسالة استراتيجية متكاملة: إيران لا ترد فقط، بل تُدير مشهد الردع بحنكة وسيطرة.
-
صواريخ تتكلم السياسة.
في عالم يتغير على إيقاع الذكاء الاصطناعي والمسيرات والصواريخ الذكية، لم تعد الحروب تُقاس بعدد الجبهات ولا بأطوال الخنادق، بل بتوقيت الرسالة، ونوع السلاح، وقدرة العقول على إدارة الفوضى. في اللحظة التي ظنّت فيها "إسرائيل" أن السماء حكرٌ لها، جاءت الضربات من حيث لا تحتسب.. من طهران.
لم تكن تلك الضربات الصاروخية المتعددة ردود فعل ظرفية، بل سلسلة عمليات دقيقة ومنسقة، شكّلت رسالة استراتيجية متكاملة: إيران لا ترد فقط، بل تُدير مشهد الردع بحنكة وسيطرة.
لقد تجاوزت طهران مرحلة "امتلاك السلاح" إلى هندسة الهيبة: شبكة من القدرات البرية والبحرية والجو-فضائية، مدعومة بتكنولوجيا متقدمة، وعقيدة قتال تُتقن توقيت المفاجآت.
صواريخ تتكلم السياسة
خلافًا لصورة "التهديد البدائي" التي روّجت لها بعض المؤسسات الغربية، جاءت صواريخ إيران لتُعبّر عن تطور نوعي في فلسفة الردع الإقليمي.
الصواريخ الباليستية بعيدة المدى كـسجيل، خرمشهر، عماد، قدر، الحاج قاسم، وخيبرشكن، لم تعد أدوات قصف فحسب، بل تحوّلت إلى لغة تفوّق، ترسم حدودًا جديدة في جغرافيا الصراع.
فهي نجحت في إصابة أهداف تبعد آلاف الكيلومترات، بدقة عالية، ورؤوس حربية ذكية بعضها ينفجر على مراحل، أو تغطية مساحة واسعة من الهدف.
ثم جاءت الطفرة التكنولوجية: صواريخ فرط صوتية كـ فتاح 1 وفتاح 2 التي تتحرك بسرعة تفوق 15 ماخ، وتُغيّر مسارها في الجو، ما يجعل اعتراضها أمرًا شبه مستحيل على كل من الدفاعات الجوية الإسرائيلية ومنظومات باتريوت الأميركية.
العمق البحري لم يكن غائبًا هو الآخر عن عقل طهران. فالغواصات الإيرانية مثل "فاتح" والمدمرات من طراز "جماران" و "دنا" لم تُبنَ فقط لأغراض دفاعية، بل تحوّلت إلى منصات هجومية متقدمة، قادرة على إطلاق صواريخ كاسرة للرادار وهذا ما يدركه الإسرائيلي والأميركي جيدًا.
ما يعني أن البحار قد تتحوّل إلى ساحة اشتباك محتملة، تمتلك إيران مفاتيحها متى شاءت.
هكذا تصبح المعركة ثلاثية الأبعاد: برّية، بحرية، وجوية، تُدار من مركز قرار إيراني شديد التحصين، عالي الكفاءة، واسع الخيارات.
إذا دخلت أميركا الحرب.. من يوقف طهران؟
التحذيرات الإيرانية لم تكن للاستهلاك الإعلامي. فإذا قررت الولايات المتحدة الدخول المباشر على خط المواجهة، فإن طهران تمتلك أوراقًا استراتيجية شديدة الخطورة.
أبرز هذه الأوراق:
إغلاق مضيق هرمز: حيث تمرّ منه نحو 25% من صادرات النفط العالمية. لذلك، فإن أي تحرك محدود هنا كفيل بإشعال أزمة طاقة تضرب سلاسل الإمداد، وترفع أسعار النفط، وتشل حركة الأساطيل الأميركية في مياه الخليج.
استهداف القواعد الأميركية: من قاعدة "العديد" في قطر، إلى الظفرة في الإمارات، فـ عين الأسد في العراق.. كلها ضمن مدى الصواريخ الإيرانية الدقيقة. واستهدافها لا يُعدّ ردًا فحسب، بل تحييدًا استباقيًا لقدرات أميركا على إدارة أي عملية عسكرية في المنطقة.
قدرات سيبرانية هجومية: تمتلك إيران سجلًا طويلًا في الحرب الإلكترونية، والقدرة على اختراق أنظمة القيادة والتحكم وتعطيل شبكات حيوية، ما يشكّل بُعدًا غير مرئي للصراع، لا يقلّ فتكًا عن الصواريخ.
لكن المفاجأة الأكبر لم تكن في السماء، بل في الشارع الإيراني.
الرهانات الغربية على تفكك اجتماعي داخلي، أو احتجاجات متزامنة مع التصعيد، انهارت أمام وحدة وطنية نادرة. حتى النخب المعارضة – الفنية، الثقافية، والرياضية – أجمعت على الوقوف في وجه العدوان.
طهران لم تُظهر فقط استعدادًا عسكريًا، بل تماسكًا شعبيًا يُصعّب على أي عدو اختراق جبهتها الداخلية.
ما ظهر، وعلى أهميته، لا يبدو أنه نهاية ما تملك إيران. والمؤشرات كثيرة:
أنظمة دفاعية متطورة لم يُعلن عنها، بدأت تظهر في التصدي لبعض الهجمات الصهيونية الأخيرة.
تحركات غير اعتيادية في وحدات الحرب السيبرانية تشير إلى جاهزية هجومية شاملة.
وربما، كما لمّح بعض القادة، ورقة ردع غير تقليدية، مخصصة للحظة التي تُكسر فيها كل الخطوط الحمر.
الحرب الإيرانية- الإسرائيلية لا تُحسم بإطلاق النار فقط، بل بإمساك المفاتيح.. مفتاح الرد، مفتاح التصعيد، مفتاح التوقيت.
وإيران، كما تُظهر الضربات الأخيرة، لا تملك فقط الصواريخ، بل تملك اللحظة.. متى تُطلق، متى تنتظر، ومتى تفاجئ.
لقد بدأ زمن جديد.
زمن لا تحكمه الطائرات ولا التحالفات فقط، بل الصواريخ الذكية، والحسابات الباردة، والردع الذي لا ينام.
إنه زمن الصواريخ!
وإذا كان لكل عصر عاصمة، فإن عاصمة هذا العصر، رضيت القوى العظمى أم لم ترض، هي طهران.