زيارة هنغاريا، هل تؤشّر على مقدرة نتنياهو إصلاح ما أفسدته الحرب دولياً!
انتشار دعوة نزع الشرعيّة عن "إسرائيل" وتحوّلها إلى "دولة" منبوذة يدفع بها نحو واقع العزلة الدولية. وكلما طال أمد الحرب، ترسّخت صورة "إسرائيل" كـ "دولة" مصابة بالجذام، وسيكون من الصعب التخلّص من هذه الصورة.
-
زيارة نتنياهو إلى هنغاريا أثارت غضباً وهجوماً لاذعاً من مؤسسات حقوقية دولية.
مرّةً أخرى، يعود إلى الواجهة الجدل حول مقدرة "إسرائيل" على تجاوز الآثار السلبية التي خلقتها حربها التدميرية في قطاع غزة على "شرعيّتها" في العالم، وإمكانية إفلاتها من عواقبها، وذلك عقب زيارة نتنياهو إلى هنغاريا نهاية الأسبوع الحالي، والتي أثارت غضباً وهجوماً لاذعاً من مؤسسات حقوقية دولية، وصلت إلى دعوة هنغاريا لاعتقال نتنياهو، والتحذير من أنّ "أيّ زيارة يقوم بها إلى دولة عضو في المحكمة من دون اعتقاله، سيمنح إسرائيل مزيداً من الجرأة لارتكاب جرائم أخرى ضدّ الفلسطينيين".
لكنّ الدولة المُضيفة لم تكتفِ باستقبال نتنياهو على أرضها، بل أعلنت فور وصوله عن قرارها الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية في تحدٍ سافر للقانون الدولي. وبالتوازي، أعلنت نيكاراغوا كذلك، سحب مشاركتها في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، بسبب ارتكابها إبادة جماعية في غزة.
وجدت "إسرائيل" التي تشنّ حرب إبادة جماعية ضدّ قطاع غزة، إضافة إلى عدوان عسكري دموي متواصل على الضفة الغربية، وغارات جوية دموية شبه يومية على سوريا ولبنان، نفسها اليوم على نقيض الدعم المطلق الذي تلقّته من العالم، مباشرة بعد السابع من أكتوبر 2023، إذ فقدت، ليس فقط شرعيّة استمرار الحرب، بل "صورتها وشرعيّتها" التي وصلت ذروتها بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحقّ رئيس وزرائها نتنياهو ووزير حربه السابق غالانت.
وعلى مستويات أخرى، هناك مقاطعة مستمرة للمستثمرين والأكاديميين الإسرائيليين، بل واتجاه متزايد لمقاطعة "إسرائيل" في المجال الطبي، بما في ذلك عدم دعوتهم إلى المؤتمرات وتجنّب قبول الأطباء الإسرائيليين للتخصّص في الخارج. كما أنّ هناك ضغوطاً على الاتحادات والمنظّمات الرياضية لمنع مشاركة "إسرائيل" في المسابقات المختلفة. وبالإضافة إلى هذه التدابير، يجدّ الإسرائيليون أنفسهم عُرضة لإجراءات قانونية في بلدان مختلفة، في أعقاب مبادرات اتخذتها جهات حكومية أو خاصة في مختلف البلدان لبدء إجراءات قضائية ضدّ جنود إسرائيليين. كما انخفض التصنيف الائتماني لـ "إسرائيل"، وتدهورت أسهمها في مؤشرات الديمقراطية العالمية، ما يشير إلى أنّ صورتها "كدولة ديمقراطية وليبرالية" قد تتقوّض.
ولا يرتبط فقدان "إسرائيل شرعيّتها" بماكينة الحرب التدميرية فحسب، بل بتركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية من اليمين المتطرّف، الذي دعا أعضاؤه إلى "إلقاء قنبلة نووية على غزة" أو "حرق القطاع"، أو "تدمير غزة وإدارة الحرب بطريقة غير منظّمة"، بما عزّز الشعور الدولي بأنّ "إسرائيل" يحكمها يمين متطرّف مسيحاني يسعى إلى الانتقام.
على مدى العقود المقبلة، يبدو أنّ القوة الجيوسياسية عالمياً، ستتحوّل بصورة جوهرية، نحو البلدان التي لديها حكومات أو شعوب تمتلك وجهة نظر غير مُحبّبة لـ "إسرائيل". وفي الغرب، أصبحت الأجيال الشابّة أكثر تعاطفاً على نحو متزايد مع الفلسطينيين، في حين ينحصر معظم الدعم المفتوح لـ "إسرائيل" من عناصر إسرائيلية أو يهودية، يُنظر إليها على أنها متحيّزة، أو من عناصر في أقصى اليمين المسيحي الغربي.
صحيح أنه لا يزال لدى "إسرائيل" أصدقاء في العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لكنها تبدو بحاجة إلى ما هو أبعد من هذه الصداقة لتتمكّن من استعادة "شرعيّتها" في العالم، ولا شكّ بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام عُزلتها، إذ يبدو من تتبّع أنشطة وزارة خارجيتها وحملة "الهسبراه" التي تقودها أنّ لديها رؤية لتجاوز هذه التبعات، تقوم على الآتي:
أولاً: النشاط الاستباقي المنتظم، حيث تعمل "إسرائيل" على مستويين متوازيين: جهود منتظمة على مدى فترة زمنية، على أساس يومي، إلى جانب النشاط الاستباقي الدوري، الذي تواصل في إطاره العمل ضدّ العناصر والجهات التي تحاول فضح "إسرائيل"، لدفعها لوقف أنشطتها عبر ملاحقتها وربما وقف تمويلها.
ثانياً: تُدرك "إسرائيل" أنّ السياسة التي تقف خلف منظومة القانوني الدولي، لا يقصد منها تحقيق العدالة، بل هي لعبة قوة. وإذا كانت المحاكم الدولية تتصرّف بطريقة ضدّ دول معيّنة من دون دولة أخرى لأنها تأتي من عالم يخالف قيمها، أو لأنها تتمتع بقوة سياسية كبيرة، فإنّ هذه المنظومة، بالنسبة لـ "إسرائيل"، "تفتقر إلى المصداقيّة"، ويجب التشكيك في مبرّر وجودها. ولذلك تواصل "إسرائيل" تجنّب التعاون مع الإجراءات القانونية التي تعتبرها "متحيّزة" مع استمرار تكرار الادّعاء "أنّ إسرائيل لا تعترف بسلطة جهة دولية تتصرّف بطريقة تتناقض مع كلّ مبادئ العدالة والقانون".
ثالثاً: تُميّز "إسرائيل" في العلاقات الدبلوماسية بين مجالين مختلفين للعمل؛ الأول هو الساحة متعدّدة الأطراف؛ أي ساحة المؤسسات الدولية، والثاني هو الساحة الثنائية، حيث يتمّ التركيز على العلاقات بين بَلَدين يتعاونان على أساس المصالح المتبادلة. وفي حين تبدو "إسرائيل" معزولة على الساحة متعدّدة الأطراف، يبدو أنّ لديها، على الساحة الثنائية، العديد من الأدوات والروابط مع البلدان الفردية التي تتعاون معها، وهو ما سعى إليه نتنياهو في زيارته لهنغاريا.
رابعاً: التحوّل من الدفاع إلى الهجوم: تتّبع "إسرائيل" اليوم نهجاً أكثر هجومية مع الدول التي تعمل ضدّها، لضمان إحداث تغيير في أنماط التصويت في الأمم المتحدة، وربما الحصول على مزايا على الساحة الدولية. تُعتبر علاقة "إسرائيل" ببعض الدول العربية التي تتعاون خلف الكواليس، عسكرياً واقتصادياً مع "إسرائيل"، لكنها تدينها على الساحة الدولية ليلاً ونهاراً، مثالاً حيّاً على هذه المقاربة. إذ باتت "إسرائيل" تلجأ إلى استخدام أدوات القوة والنفوذ ضدّ هذه الدول لمنعها من ممارسة حتى النقد الشكلي لـ "إسرائيل" على الساحة الدولية، بما يضمن قدرتها على السيطرة والتحكّم، فالعطب الذي لا يمكن لعامل الزمن أن يُصلحه يتكفّل المال والنفوذ والقوة الناعمة والخشنة بإصلاحه.
خامساً: استغلال الميزة التكنولوجية: تعمل "إسرائيل" على تعويض الفجوة الكمية مع أعدائها من خلال ما تتمتّع به من مزايا في مجالات أخرى، وأبرزها المجال التكنولوجي، فهي، ولا شك، واحدة من "الدول" الرائدة في هذا المجال. ولتحسين قدراتها على التواصل ونقل الرسائل التي ترغب في نقلها بشكل أفضل تركّز "إسرائيل" جهودها واعتمادها أدوات الذكاء الاصطناعي. وبسبب التطوّر التكنولوجي وتحوّل الفضاء الرقمي إلى قناة تأثير مهيمنة في تشكيل الوعي، لجأت "إسرائيل" إلى المؤثّرين والشباب لمواجهة آثار الحرب على صورتها وفي كلّ ما يتعلّق بإدارة الخطاب والتأثير على الوعي. تدرك "إسرائيل" أنّ لدى هؤلاء المؤثّرين الذين يُحفّزون العمل المبني على الصورة، جمهور كبير جداً من المتابعين، وجزء كبير منهم من الشباب الذين يتمتعون بحضور بارز بشكل خاص على الشبكات الاجتماعية.
سادساً: تعتمد "إسرائيل" كذلك بناء استراتيجية طويلة الأمد ومنهجيّة عبر إنشاء فريق تخطيط متنوّع يتكوّن من عناصر مؤهّلة من مجالات الاتصالات والإعلام والاستخبارات والتكنولوجيا والإدارة والثقافة وعلم النفس. هذا الفريق يتابع، من بين أمور أخرى، التغيّرات التكنولوجية الواسعة النطاق في مجالات إدارة الخطاب، والتأثير الناتج عن ذلك على الجماهير، والقيم العالمية الرائدة في الخطاب العالمي، بما يضمن لـ "إسرائيل" الاستجابة السريعة للدعاية ضدّها وصياغة محتوى إسرائيلي "مضاد" مثير للاهتمام يسهل الوصول إليه.
ومع ذلك فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، ما إذا كانت جملة الإجراءات والمواقف التي تتخذها "إسرائيل" قادرة على معالجة عواقب انفلات القوة الجنوني في نهاية الحرب، إذ إنّ عجزها عن وقف إجراءات "عزلها" يعني أنها قد تفقد ارتباطها بمعسكر الدول الغربية، وهو ما من شأنه أن يُلحق ضرراً كبيراً بقدرة "إسرائيل" على الردع. لقد أثبتت الحرب الحالية أهمية التحالف مع الولايات المتحدة بالنسبة لـ "إسرائيل"، سواء في وقوفها إلى جانبها مباشرة بعد السابع من أكتوبر 2023 في مواجهة قوى المحور التي وقفت مع فلسطين، أو في عرقلة القرارات المُطالِبة بإدانة "إسرائيل" في مجلس الأمن.
إن صورة "إسرائيل" الشريرة، التي انتشرت في جميع أنحاء العالم، ليست مجرّد مشكلة "صورة غير لائقة" عنها، بل هي ذات تأثير تصاعديّ على صُنّاع القرار في مختلف الدول. إنّ أحد الأسباب التي تجعل "إسرائيل" بمثابة "أصل مهم" بالنسبة للولايات المتحدة والعالم الغربي هو تصويرها "كمركز ديمقراطي ليبرالي في قلب منطقة لا تتقاسم القيم نفسها". بالنسبة لهذه البلدان أمام شعوبها، فإنّ العلاقات القوية مع "إسرائيل" مبنية على فهم مفاده أنّ "إسرائيل" هي "الديمقراطية الليبرالية الوحيدة" في الشرق الأوسط، حيث تتمتّع بسيادة القانون وحكومة منظّمة، ويمكن الاعتماد على سلوكها المسؤول!
مع تزايد الضغوط الشعبية المُعارضة لـ "إسرائيل" في مختلف دول العالم، فإنها قد تتحوّل، في نظر هذه البُلدان وقادتها، من مصدر قوة إلى عبء، الأمر الذي يتطلّب دفع ثمن سياسي داخلي لدعمها. ومن الممكن أن يؤدّي ذلك بهؤلاء إلى إبعاد أنفسهم عن "إسرائيل" إلى درجة قطع العلاقات معها في مستويات مختلفة.
إنّ الثمن السياسي قد يستلزم الابتعاد عن "إسرائيل" حتى ولو كان من المنطقي من منظور المصالح الموضوعية للبلاد الحفاظ على العلاقات معها. وبعبارة أخرى فإنّ انتشار دعوة نزع الشرعيّة عن "إسرائيل" وتحوّلها إلى "دولة" منبوذة في مختلف أنحاء العالم يدفع بها نحو واقع العزلة الدولية. وكلما طال أمد الحرب، ترسّخت صورة "إسرائيل" كـ "دولة" مصابة بالجذام، وسيكون من الصعب التخلّص من هذه الصورة، وهذا صحيح بشكل خاص إن لم يحدث تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية، وهو ما لا نتوقّعه، على أقلّه، في المدى المنظور.