زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن... دلالات المشهد وحدود المكاسب
بعد أن كان الطموح السعودي يلامس حدود التكافؤ في العلاقة مع الولايات المتحدة على أساس المنفعة المتبادلة، ارتضى ولي العهد السعودي باعترافٍ أميركيٍّ بشرعية تولّيه العرش، وبجملة من المزايا.
-
زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن.. ماذا بعد؟
بعد نحو سبع سنوات على زيارته الأخيرة، دخل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض على وقع تحليق المقاتلات وعزف الموسيقى، وعلى السجادة الحمراء التي لم تُفرش كثيراً في السنوات الماضية. فقد كان واضحاً أن الرئيس الأميركي قد حرص على إظهار مستوى عالٍ من الحفاوة بما يطرح تساؤلاً أساسياً حول ما يمكن للمملكة العربية السعودية أن تكون قد حققته.
بطبيعة الحال، لا تعد العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة مستجدة أو سطحية، حيث إنها تعود إلى عام 1945 حين التقى الملك الراحل عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الطراد الأميركي يو أس أس كوينسي في قناة السويس. وبنتيجة هذا اللقاء، تم التوقيع على اتفاق تيجي الذي تعهدت فيه الولايات المتحدة بتوفير دعم عسكري وأمني للمملكة مقابل ضمان توريد النفط السعودي إلى الولايات المتحدة بشكل مستقر وبأسعار معقولة.
وبالتالي، فإن العلاقة بين الطرفين لم تخرج منذ ذلك التاريخ عن إطار الاعتماد المتبادل بينهما، حيث شكلت المملكة مرتكزاً أساسياً أسهم بشكل فاعل في تحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة، بدءًا من محاولة احتواء الاتحاد السوفياتي مروراً بتقاطع الأهداف في مواجهة الجمهورية الإسلامية والحؤول دون تمدد الثورة الإسلامية إلى الدول العربية، وصولاً إلى الانخراط السعودي المطلق في ما اعتبرته الولايات المتحدة حرباً على الإرهاب، بدءًا من احتلال العراق ثم مواجهة القاعدة وداعش وأخيراً محاولة إسقاط أنصار الله في اليمن.
وعليه، تصبح محاولة تضخيم ما حصل في البيت الأبيض، خلال لقاء ولي العهد السعودي والرئيس الأميركي مكشوفة، بحيث إنه لا يمكن تسييلها إلا في إطار إظهار ولي العهد على أنه حالة استثنائية سعودية يمكن التعويل عليها لقيادة المملكة والمنطقة في المرحلة المقبلة.
فبعد أن أطلق ولي العهد عام 2016 خطته التيجية، رؤية 2030، التي هدفت كما عرَفها إلى تحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد متنوع بالتوازي مع تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع منفتح على العالم، جاءت عملية اغتيال جمال خاشقجي في السفارة السعودية في تركيا عام 2018 لتفرمل اندفاعته نحو تحقيق هدفه بتثبيت نفسه قائداً استثنائياً في نظر القوى الدولية.
وللإشارة، فرغم كل الجهد المبذول منذ عام 2016، لم تظهر المواكبة الميدانية للأعمال المنجزة من رؤية 2030 أي إشارة لإمكانية تحقيق أهدافها في الموعد المحدد، حيث أشارت وكالة بلومبرغ في نيسان 2024 إلى أن ما كان متوقعاً من المشروع يخضع لعملية إعادة تقييم كبيرة. وعليه، بات من الضروري البحث عن سبل جديدة قد تكفل أو تساعد في الحد الأدنى في إعادة رسم صورة القائد الاستثنائي التي يراها الأمير محمد بن سلمان مدخلاً إلزامياً لتكريس موقعه على عرش المملكة في مرحلة لاحقة.
بالتوازي، لم يكن طوفان الأقصى عاملاً مساعداً في تحقيق هدف ولي العهد. ففي مرحلة ما قبل الطوفان، كان تقدير ولي العهد السعودي يعتبر أن نجاحه في فرض مسار مختلف للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، عن ذلك الذي اعتمدته الإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرهما في إطار ما يُعرف بالسلام الإبراهيمي، سيرفع أسهم تقييمه في الداخل السعودي وفي العالمين العربي والإسلامي، وذلك من خلال ادعاء حرصه على تحقيق حلم الدولة الفلسطينية وتمهيد الظروف لحل دائم للقضية التي عجز العرب عن حلها منذ عام 1948.
لقد كان التقدير السعودي في مرحلة ما قبل طوفان الأقصى يفترض أن الولايات المتحدة جاهزة لتقدم لولي العهد السعودي ما يمكن اعتباره غير عادي في ظروف أخرى.
فالانفتاح السعودي في تلك المرحلة على روسيا والصين كان مصدراً لقلقٍ لدى دوائر القرار الأميركية الباحثة في كيفية ترتيب واقعها في الشرق الأوسط في ظل قرارها بالانكفاء النسبي من جهة واندفاعة هاتين الدولتين لتعميق علاقاتهما التيجية مع دول المنطقة من جهة أخرى.
وعليه، فإن المطالبة السعودية باتفاق دولي يمنح الشعب الفلسطيني دولته التي طال انتظارها، إضافة إلى المطالبة أيضاً بمساعدتها في بناء مفاعلات نووية معطوفاً على سعيها لاتفاق أمني تيجي مع الولايات المتحدة لم يكن يدلل إلا على يقين سعودي بالقدرة على انتزاع هذه المطالب من الولايات المتحدة الأميركية.
أدى اقتحام المقاومة الفلسطينية للمستوطنات وما تلا ذلك من عدوان إسرائيلي على القطاع إلى تبدل جذري في المقاربات الأميركية للتطبيع وكذلك لمجمل تيجيتها في الشرق الأوسط.
فتيجية الانكفاء أو الانسحاب النسبي من المنطقة والاعتماد على الشركاء الإقليميين في تأمين المصالح قد أثبتت عدم جدواها حيث إن طوفان الاقصى وإسناد قوى المقاومة للفصائل الفلسطينية قد أظهرتا محدودية القدرة الإسرائيلية في مواجهة تحديات معقدة على أكثر من جبهة، إضافة إلى تيقن الإدارة الأميركية من أن الحلفاء الإقليميين الآخرين لا يملكون بقواهم الذاتية القدرة الفاعلة على مواجهة قوة المقاومة المتنامية في أكثر من مكان.
وعليه، عادت الولايات المتحدة إلى اعتماد تيجية ترتكز على الانغماس المباشر في المنطقة وتحديد الأدوار التي ينبغي على الأطراف الإقليميين الالتزام بها، بما يخدم رؤيتها في المقام الأول.
فبعد أن اتخذت الولايات المتحدة قرارها بتعزيز حضورها العسكري والأمني المباشر وعملت على إعادة هندسة تحالفاتها الإقليمية بحيث أعادت تحديد الأدوار الجديدة لحلفائها في المنطقة من أجل ضمان عدم بروز أي ترتيب أمني خارج مظلتها، بات من الواقعي أن تعيد المملكة تقييم أولوياتها التيجية بعدما اتضح أن هامش المناورة الذي استفادت منه في فترة ما قبل الطوفان قد تقلص بشكل كبير تحت وطأة التيجية الأميركية المستجدة في المنطقة.
في هذا السياق تغيرت خطة العمل السعودية وأظهرت تخلياً واضحاً عن مطالب كانت تُعتبر استثنائية. فبدل السعي لإظهار الموقع الاستثنائي للمملكة في العقل التيجي الأميركي، من خلال فرض حل الدولتين أو الحصول على برنامج نووي يعتبره الكيان الإسرائيلي من المحرمات التيجية، ذهب ولي العهد السعودي إلى البيت الأبيض ليقدم للولايات المتحدة هدية مالية تقدر بترليون دولار وارتضى استبدال الدولة الفلسطينية بمسار سياسي غير محدد المعالم، كما تخلى عن حلم البرنامج النووي مقابل حفنة من طائرات الأف 35 الأقل تطوراً من التي يمتلكها الكيان، واتفاق أمني لن يقدم للملكة أي جديد.
فبعد أن كان الطموح السعودي يلامس حدود التكافؤ في العلاقة على أساس المنفعة المتبادلة التي قد تقدم المكتسبات السعودية على أنها ذات خصائص إقليمية، ارتضى ولي العهد السعودي باعتراف أميركي بشرعية توليه العرش وبجملة من المزايا التي قد يكون أفضلها استقباله على تلك السجادة الحمراء.