سوريا...الجسد ضعيف لكن الروح قوية
تاريخياً كانت سوريا ساحة للصراع الدولي، نظراً لأهميتها الجيوسياسية، ودورها كقوة فاعلة في المنطقة، وموقعها الذي لا يمكن تجاوزه، والذي ازدادت أهميته في ظل حروب النفط والغاز التي تشهدها المنطقة والعالم.
-
سوريا ساحة للصراع الدولي.
لا يمكن قراءة ما يحدث في السويداء على أنه مجرد اقتتال طائفي بين فصائل درزية وغيرها من البدو، أو بينها وبين القوات الحكومية، دون إدراك لأبعاد تلك المشكلة وتداخلاتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
مثل تلك الأحداث لم تكن جديدة على المنطقة، فكثيراً ما حدثت في عهد النظام السابق، لكنها كانت تحل وفقاً للأعراف العشائرية والمجتمعية، ولم تصل حد "التهجير القسري" الذي ينذر ببداية تغيير ديمغرافي لن تقتصر تداعياته على السويداء بكل تأكيد.
كشفت الأحداث هذه المرة عن هشاشة النسيج الاجتماعي السوري بشكل عام، وازدياد حجم التدخلات الخارجية الناجمة عن ضعف السلطة المركزية أو فقدان الثقة في التعاطي معها، دون اهمال لوجود بعض الفصائل التي بات قادتها يجدون في تعاملهم مع الخارج طريقاً لتزعمهم المشهد في المنطقة.
ضعف السلطة المركزية جعل البعض يعتقد أن له حقوقاً فوق ديمقراطية، فلم يعد أبناء بعض المكونات يطالب بالمساواة بينه وبين غيره من أبناء الوطن الواحد، بل يرى أن من حقه الحصول على بعض الامتيازات التي استطاع انتزاعها من النظام السابق.
الحالة هذه لا تعبر عن وعي وطني ولا تلقى ترحيباً من باقي أبناء سوريا، فجميعنا يجب أن يطالب بالعدالة والمساواة لجميع أبناء سوريا، لا لأبناء منطقته أو طائفته.
مع الاشارة إلى أن حالة الضعف لدى الحكومة المركزية لها أسبابها المتوارثة، وحداثة عهدها في السلطة وعدم رغبتها في الدخول في صدامات داخلية، خاصة وأنها تسعى لتصفير مشاكلها الخارجية.
إن ما حدث في السوبداء يؤسس لما بعده من تبعات لن تقتصر تأثيراتها على السويداء وحدها، ولا على سورية، بل ستمتد تبعاتها إلى باقي دول الاقليم، في ظل وجود مخطط يرى أن "الورقة الدرزية" إحدى أدواته.
القراءة الهادئة للمشهد تحمل الجميع المسؤولية عما يحدث، وتؤكد أن الجميع خاسر، فلا مجال للحديث عن الانتصار في الصراع بين الأخوة.
سوريا ساحة للصراع الدولي
تاريخياً كانت سوريا ساحة للصراع الدولي، نظراً لأهميتها الجيوسياسية، ودورها كقوة فاعلة في المنطقة، وموقعها الذي لا يمكن تجاوزه، والذي ازدادت أهميته في ظل حروب النفط والغاز التي تشهدها المنطقة والعالم.
منذ خمسينيات القرن الماضي كانت سوريا جزءاً من سياسة المحاور التي شهدتها المنطقة، ليس رغبة منها، بل إن "لعنة الجيوبولتيك" كثيراً ما كانت تنطبق على الحالة السورية وبشكل كبير.
ما حدث في سوريا مؤخراً لم يكن مجرد اسقاط للنظام فيها، بل انتقال من محور (روسي إيراني) إلى المحور المعادي له (أميركا والمعسكر الغربي وخلفائهم من دول المنطقة)، وهذا لن يمر بهدوء ودون حدوث هزات عنيفة.
تاريخياً كانت سوريا جزءاً من المحور الشرقي، ولروسيا نفوذ كبير في الساحة السورية، لذا فإن القطيعة معها لن تؤدي إلى استقرار سوريا بكل تأكيد.
الانفتاح السوري على روسيا أمر مشجع، وقراءة براغماتية لمعطيات الواقع، فروسيا لاعب دولي هام ومناصر تاريخياً للقضايا العربية، والملفات العالقة بين البلدين يمكن بحثها والسعي للتوصل إلى اتفاقات حولها.
هذا الاتفتاح سيتبعه انفتاح على إيران بكل تأكيد، وسعي لتصحيح العلاقة معها، فقطع العلاقات بين الدول أكبر مؤشر على فشل السياسة، وهو ما لا تريده الحكومة السورية بكل تأكيد.
الانفتاح السوري على أميركا هام جداً، لكنه غير كاف لوضع حد للاعتداءلت الاسرائيلية المتكررة على الداخل السوري، كما أن الانحياز الأميركي لإسرائيل أمر معلن، وهو ما عبر عنه المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك وبشكل واضح.
حاجة سوريا في عهد النظام السابق إلى كل من روسيا وإيران جعلتها تقدم العديد من التنازلات، والتوقيع على عدد من الاتفاقيات المجحفة بحق الشعب السوري، وفقاً لرؤية الحكومة الانتقالية في دمشق.
اعادة النظر في تلك الاتفاقيات سيشكل طريقاً لعودة العلاقات بين سوريا وكلتا الدولتين، وهو أمر مقبول من الجانبين الروسي والايراني، وبالتالي فإن عودة العلاقات مع طهران لن يكون بعيداً، وقد يكون لموسكو دوراً في تقريب وجهات النظر بين كل من دمشق وطهران.
الاقليم يتحمل جزءاً من المسؤولية
ضعف النظام الاقليمي يتحمل جزءاً من المسؤولية عما يجري من أحداث في سوريا، فلولا هذا الضعف لما استطاعت إسرائيل أن تعربد في الاقليم كما تشاء، فرأينا الاعتداءات المتكررة على كل من سوريا وإيران ولبنان واليمن، إضافة إلى جرائم الحرب المستمرة في قطاع غزة.
الدول الداعمة للحكومة السورية وخاصة تركيا والسعودية وقطر، ليست قادرة على منع الاعتداءات الاسرائيليلة، أو التأثير على الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل.
رغبة هذه الدول في منع التمدد الروسي والايراني في سوريا لا يعني الاستغناء عن دور كلتا الدولتين، خاصة وأن قطر لديها علاقات قوية مع كل من أنقرة وطهران، ويمكن لها لعب دور كبير في هذا الاطار، خاصة وأن تركيا وقطر كانتا الدولتين الأكثر دعماً لاسقاط النظام السوري السابق.
عودة العلاقات مع روسيا تقطع الطريق أمام من يريد زعزعة الاستقرار في سوريا وخاصة في منطقة الساحل، والحديث عن قيام الروس بتجنيد عدد كبير من "فلول النظام" ونقلهم للقتال ضد أوكرانيا، مقابل منحهم الجنسية الروسية بعد سنة والسماح لهم بالاستقرار في موسكو.
كما يمكن لموسكو الحد من الاعتداءات الاسرائيلية في الداخل السوري، خاصة وأن القوات الروسية موحودة في الساحل السوري، وقد تكون متواجدة مستقبلاً في منطقة الجنوب.
عودة التنسيق بين دمشق وموسكو قد يجعل الميليشيات الخارجة عن القانون هدفاً للطيران الحربي الروسي، على غرار ما كانت تفعله موسكو في عهد النظام السابق.
حرص موسكو على مصالحها في سوريا، وخاصة منع مرور خط الغاز القطري في أراضيها، قد يكون أحد الأسباب التي دفعت دمشق لاستيراد الغاز من باكو عبر الأراضي التركية.
ظهور فصيل في الجنوب السوري تحت مسمى "أولي البأس" لمقاومة الاعتداءات الاسرائيلية، يعتقد أن له علاقة بطهران أمر مقلق للحكومة السورية، لكنه قد يكون ورقة قوية بيدها في التفاوض مع إسرائيل، إذا ما استطاعت التنسيق معه أو مع طهران.
حالة عدم الاستقرار التي تشهدها سوريا لا يمكن فصلها عن الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، وبالتالي فإن قدرة الحكومة السورية على الاحتفاظ بهامش من المناورة في علاقاتها الدبلوماسية يجنبها الدخول في سياسة المحاور والاصطفافات التي لا تخدم توجهاتها بكل تأكيد.
نجاح سوريا في أن لا تكون "مكسر عصا" أو ساحة للمواجهة غير المباشرة بين تركيا وإسرائيل هو المعيار على استقلاليتها، وعدم استبدالها نفوذ دولة أجنبية بنفوذ آخر.
هشاشة المجتمع السوري
تثبت الأحداث الجارية في سوريا أن المجتمع السوري لا يزال هشاً وغير متماسك، خاصة وأن النظام السابق سعى لإضعافه، لاعتقاده أن ضعف المجتمع يزيد من قوة السلطة.
ما نراه اليوم ليس سوى نتيجة لحالة التهميش والاحتقان الطائفي، وزرع الفتنة بين مكونات المجتمع السوري، وغياب العمل السياسي لعدة عقود مضت، وسوى ذلك من الأمور التي يتوجب على الحكومة الجديدة أخذها بعين الاعتبار.
الفسيفساء الطائفي الجميل الذي تتمتع به سوريا، والذي كان سراً من أسرار منعتها وجمالها، بات اليوم نقطة ضعف و عامل انقسام داخل المجتمع، فظهرت الهويات دون الوطنية، وبات الحديث الطائفي أمراً غير مستغرب.
كما لعبت وسائل الاعلام دوراً كبيراً في تأجيج الصراع في سوريا، فالاعلام الرسمي لا يمتلك الرؤية والرسالة الواضحة، وهامش الحرية الذي يسمح به كثيراً ما استخدم لتكريس الهوة بين الفرقاء بدلاً من العمل على ردمها.
استضافة شخصيات محسوبة على السلطة، مؤدلجة وغير مؤهلة لتقديم خطاب وطني جامع، ، أوصل رسائل خاطئة بأن الدولة تدعم مثل تلك التوجهات، وهو أمر غير صحيح بكل تأكيد، لأنه لا يصب في مصلحة الحكومة في المحصلة.
أما الاعلام الخاص فلكل أجندته وتوجهاته، كما أنه يخدم مصالح الدول التي تموله، والتي لا تتقاطع في كثير من الأحيان مع المصلحة الوطنية لسوريا.
أما مواقع التواصل الاجتماعي فقد لعبت دوراً كبيراً في تأجيج الصراع وبث الفرقة ونشر الأكاذيب، وهناك شكوك حول طبيعة القوى التي تديرها، والدول التي تقف وراءها، خاصة وأن وزير الاعلام السوري كان قد تحدث عن وجود حوالي 300 ألف حساب وهمي تدار من الخارج، تنشر أخباراً مضللة وتعمل على بث الفرقة بين مكونات الشعب السوري.
حالة التهجير القسري التي شهدتها سوريا والتي شملت حوالي 13 مليون شخص، ما بين لاجئ ونازح، اضافة إلى التغيير الديمغرافي وما ترتب عليه من تبعات أدت في المحصلة إلى اضعاف بنية المجتمع السوري وزادت من حدة الانقسامات الطائفية فيه.
تلك المشاهد وغيرها تزيد من تعقيدات المشهد في سوريا، وتحتم على الحكومة الاسراع في تولي زمام المبادرة واجتراح الحلول التي قد تكون موجعة للجميع، لكنها تصب في المحصلة في مصلحة سوريا والحفاظ على وحدتها.
لا يمكن لسوريا أن تنهض من جديد دون وجود مشروع وطني جامع أساسه التطلع إلى المستقبل لا النظر في الماضي، والنبش في خلافات لا يمكن أن نجد طريقاً لحلها، بل علينا البحث عن المشتركات التي يمكن البناء عليها، لا التركيز على بعض الاختلافات التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد.
ندرك جميعاً أن الحديث عن عملية الانتقال السياسي في بلد مدمر أمراً ليس باليسير، وأن طريق البناء يبدأ بخطوة، شريطة أن تكون تلك الخطوة بالاتجاه الصحيح.