عيد النصر
في يوم الاحتفال بالذكرى الثمانين لانتصار القوات الروسية على النازية، نستمد بصيص أمل وتفاؤل، بأن تحتفل أجيالنا المقبلة بما يحتضنه ويدافع عنه مظلومو اليوم ويقضون شهداء في سبيله.
-
لن يذكر أحد الطغاة والقتلة والمحتلين لأنهم سوف يندثرون مع التاريخ الأسود.
بعد ثمانين عاماً من الانتصار على النازية والذي لعبت فيه روسيا دوراً مفصلياً وحاسماً يجتمع الأحفاد وأحفادهم في الساحة الحمراء في موسكو في عرض عسكري مهيب ومعهم رؤساء دول ومسؤولون ساميون وممثلون عن جيوش أخرى أبرزها الجيش الصيني لينحنوا إجلالاً واحتراماً لكل من قاتل ودافع وضحّى وساند، ولكل من حمل في وجدانه قيم التضحية والفداء، ودفع أثماناً باهظة لها لكي يرث الروس اليوم هذا الإرث الذي يفخرون ويعتزون به، وينقلوه إلى الأجيال الشابة كي يستمرّ في تسطير عظمة شعب أبى الاستسلام وأبى الذل والهوان، ودفع ملايين الأنفس البشرية ثمناً لعزته وكرامته وحريته وانتمائه.
تأتي أهمية هذا الحفل وفي هذا التوقيت بالذات، في زمن تتصارع فيه السرديات العالمية حول الشهادة والانتماء، وحول التضحية بالذات في سبيل قضية وطنية مقدسة، وحول جدوى المقاومة في زمن الهيمنة والإجرام والانكسارات، مع جهود متعمّدة ومستمرة لإلغاء البعد التاريخي لأي صراع، والتركيز فقط على اللحظة الراهنة والمكاسب الآنية وتثبيط الهمم وتفكيك الأسر والمجتمعات، في محاولات تهدف جميعها إلى بسط سلطة الطغيان وسلب البشر من أقدس وأطهر المعاني التي عاشوا وضحوا واستشهدوا من أجلها.
في زمن القوة العسكرية الغاشمة وفي زمن سلطة المال وتسفيه الالتزام بالمعاني الأخلاقية والوطنية السامية، من المهم والضروري والنبل، الانحناء لمن ضحوا وعانوا وقتلوا وماتوا كي تحيا الأجيال التي أتت بعدهم عزيزة وكريمة وشامخة، تحتل مكانها الرفيع بين الأمم نتاج هذه التضحيات والعطاءات، التي آثرت الزود عن القيم والمبادئ والانتماء. في هذا الزمن الذي احتلت القوة العسكرية المرتبة الأولى في التدمير والقتل والاحتلال والحكم على الملايين بالموت جوعاً، تُبث حملات من الشكوك حول معاني المقاومة والفداء، متخذين من الأثمان الباهظة المدفوعة ذريعة لتغيير الاتجاه ورمي السلاح والتنكر للحق واسترضاء القتلة والمجرمين، بدلاً من قتالهم ومقارعتهم والذود عن الحمى والأرض والتاريخ ومستقبل الأجيال.
إذ بالإضافة إلى الإجهاز على المقاومة الشريفة والمستبسلة عسكرياً، وخرق كل أعراف الحروب على مدى التاريخ، تعمد الجهات الاستعمارية الاستيطانية إلى بث روح الاستسلام واليأس والقنوط بين الأجيال الشابة، التي قررت الذود عن الأوطان فتنشر السرديات المشككة بجدوى التضحية، وعقم بذل الذات في سبيل قضية مقدسة، وحكمة الاهتمام بالخلاص الفردي، بعيداً عن ديماغوجيات تحرير الأرض والإنسان. ويقترن هذا مع بث كل أساليب التشويه للقيم التي تربت عليها الأجيال وآمنت بها وورثتها وتوارثتها من جيل إلى جيل، كي يصبح الطريق أمام التدمير النهائي ممهداً، ويسهل من بعده تسويف التاريخ وبناء واقع جديد، يعتمد فبركة تاريخ جديد مؤسس على اختلافات وهلوسات ما أنزل الله بها من سلطان.
من أجل الحفاظ على بصيرة المسار التاريخي وإدراك حقيقة أن الأيام متنوعة ومختلفة، منها الجميل والمزدهر ومنها القاسي والمحبط، عظّم الله عزّ وجل أجر الصابرين لأن الصبر في الزمن الصعب، والقبض على القيم والأخلاق والمبادئ، وإن يكن كالقابض على الجمر، هو سر استمرار الخير في البشرية والوثوق بأن الأمور بخواتيمها، وأنه في النهاية لا يفلح إلا الصادقون والمنتمون، والقادرون على دفع ضريبة القيم السامية، مهما كلف ذلك من ثمن. والتاريخ حافل بقصص إمبراطوريات قامت على الظلم والطغيان وكبرت واستقوت وتجبرت، ولكنها آلت إلى الزوال، بينما استحمد المدافعون عن انتمائهم أنصع الصفحات في تاريخ الشعوب.
في زمن سقطت فيه كل ادعاءات حرية الرأي وحرية الإعلام وحرية المعتقد، وفي وقت انكشفت فيه حقائق الديمقراطيات الليبرالية، التي سعت على مدى عقود لتصوير نفسها بأنها المخلّص السياسي والإنساني للبشرية، في هذا الزمن، من الحكمة التحلّي بالهدوء والثبات، ومتابعة المسير، حتى لو بدا الثمن باهظاً، والأبعد حالكاً إلى حين. وإذا كان الرسل صلوات الله عليهم قد أوذوا وصبروا، فهل نستغرب أن يلحق الأذى الشديد بمن يدافع عن أرضه وشعبه وتاريخه ومستقبله في وجه الظالمين المعتدين؟ .
إن استبسال الشعب الفلسطيني واللبناني واليمني في الدفاع عن أرضهم، وعن الحمى والانتماء للأوطان والطرق الأخلاقية التي عبّر عنها الأطباء والممرضون والعاملون في مختلف القطاعات، لهو درس يجب تدريسه في الأكاديميات، عن شعوب لا حول لها ولا قوة، تتشبث بالأرض والدفاع، من إنسانية الإنسان، وبين مستوطنين ومحتلين ظالمين لا يعرفون الإنسانية والأخلاق سبيلاً، وعالم صامت ارتضى أن يستكين لترهيب الإرهابيين، بدلاً من رفع الصوت والقلم والسلاح لنصرة أطفال مظلومين، حكم عليهم الطغاة بالموت جوعاً، كي يستأثروا بأرض أبى أصحاب الشهامة مغادرتها، وفضلوا الموت على ترابها، تعبيراً عن انتماء قلّ نظيره في عالم اليوم ..
في يوم الاحتفال بالذكرى الثمانين لانتصار القوات الروسية على النازية، نستمد بصيص أمل وتفاؤل، بأن تحتفل أجيالنا المقبلة بما يحتضنه ويدافع عنه مظلومو اليوم ويقضون شهداء في سبيله ونحن نعلم علم اليقين أن الخلود سيكون لهم عن انتماء قلّ نظيره في عالم اليوم .
وأن أحداً لن يذكر الطغاة والقتلة والمحتلين لأنهم سوف يندثرون مع التاريخ الأسود لهذه الحقبة التي نعيشها، والتي لن تكون نهاية التاريخ، ولا نهاية الصراع بين الحقد والباطل.