غزة.. المشهد العام ما بعد الحرب

في ضوء المتغيّرات المتسارعة لا يمكن حسم مآلات المرحلة الانتقالية الحالية في المنطقة، بيد أنها تظهر مزيداً من التحدّيات للطرف العربي الذي يتمسّك بخيار المقاومة كوسيلة شرعية للتحرير.

0:00
  • غزة.. المشهد العام ما بعد الحرب
    غزة.. المشهد العام ما بعد الحرب

بعد نحو أسبوعين من وقف إطلاق النار في غزة، واستكمال بنود جوهرية من المرحلة الأولى من الاتفاق، منها تبادل الأسرى والانسحاب الإسرائيلي من نصف قطاع غزة تقريباً، تمكّنت الأطراف من تجاوز العقبات التي كادت أن تفجّر الموقف ولا سيما بعد حادثة رفح التي قتل فيها جنديان إسرائيليان، الأمر الذي عكس توجّهاً أميركياً حاسماً نحو المضي قدماً في تنفيذ اتفاق شرم الشيخ بمراحله المختلفة، علماً أنّ الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لم يتفقا إلا على المرحلة الأولى من الاتفاق، وما نشهده حالياً هو مرحلة انتقالية سلّمت فيها الأطراف كافة بالواقع كما هو على الأرض، بصرف النظر عن ما يريد تحقيقه الفلسطينيون أو الإسرائيليون.

 تقدّر، الحكومة الإسرائيلية أنه خلال المرحلة الانتقالية الراهنة، تسعى "حماس" لتعزيز قوتها العسكرية، وترميمها، وتواصل جهدها الاستخباري على الأرض وتسدّ الفراغ في المواقع القيادية بل وتجنّد مزيداً من المقاتلين في صفوفها، كما أنها تمارس سلطتها الحكومية في فرض النظام والأمن العامّ، بموافقة رسمية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على الأقل، في هذه المرحلة.

من جهة أخرى، يرى الطرف الفلسطيني ممارسات "الجيش" الإسرائيلي على الأرض، الذي يواصل سيطرته على نحو نصف قطاع غزة ويمنع بالقوة دخول المواطنين لأماكن سكنهم، بل ويقتلهم كما فعل في إبادة عائلة أبو شعبان المكوّنة من ثمانية أفراد قبل أيام، ولا يزال يتحجّج بتعمّد الطرف الفلسطيني تأخير تسليم الجثث، ويمتنع عن فتح معبر رفح وإدخال الكميات المتفق عليها من شاحنات المساعدات كمّاً ونوعاً، بيد أنّ إرادة الطرف الأميركي، لا تزال تكبح جماح الرغبة الإسرائيلية في تفجير الاتفاق وتضغط على الطرف الفلسطيني والوسطاء لتسريع تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين، من أجل تذليل العقبات أمام البدء بالمرحلة الثانية من الاتفاق، التي يصرّ الجانب الإسرائيلي على ألّا تبدأ قبل تسليم آخر جثة. 

المشهد الحالي في غزة لا يختلف جوهرياً عن الحالة اللبنانية، باستثناء أساسي حتى الآن على الأقل، وهو تغوّل الاحتلال الإسرائيلي عبر الاستهدافات والاغتيالات لعناصر المقاومة اللبنانية وشبه الاستباحة للأراضي اللبنانية عبر التهديد الجوي المستمر ورفض الانسحاب من المواقع اللبنانية الخمسة التي يسيطر عليها. 

في المقابل، لا تزال المقاومة اللبنانية تحتفظ بأسلحة هجومية ودفاعية، بحسب التقدير الإسرائيلي، بيد أنّ الأخير يقدّر بأنّ الجيش اللبناني بدأ بتفكيك منشآت تابعة للمقاومة وجمع السلاح في المناطق الواقعة جنوبي نهر الليطاني، لكنّ عملية جمع السلاح شمالي النهر، ما زالت بعيدة عن التنفيذ.

 المرامي الأميركية على المديين المتوسط والبعيد تسعى إلى تحويل حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وفي المنطقة عموماً، إلى حركات سياسية لا تشكّل تهديداً مستقبلياً على "إسرائيل"، وذلك عبر مراحل متدحرجة تدمج ما بين التهديد بالقوة والعودة للحرب الإبادية، وبين الترغيب باستعدادها لممارسة الضغوط على "إسرائيل " لتقديم "تنازلات" تؤدّي إلى تسوية شاملة، بشرط التخلّص من المقاومة كفكرة قبل التخلّص من سلاحها، ومن ثم بدء مسار التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية، بالتوازي مع ضمان أمن "إسرائيل"، وتحييد ما يهدّدها، ومنح الفلسطينيين الأمل بتقرير مصيرهم من دون أية التزامات بالحدّ الأدنى من حقوقهم إلا بعد تجريف فكرة المقاومة كمشروع ورؤية ووسيلة لنيل الحقوق.

بيد أنّ موقف حكومة اليمين الإسرائيلية يرى أنّ مخرجات الحرب لا تجبر "إسرائيل" على تقديم تنازلات حتى لو كانت محدودة، وبأنّ مزيداً من الدمج بين القوة العسكرية والتهديد بها كفيلان بإخضاع المقاومة، ومن الممكن توسيع اتفاقات التطبيع، من دون الالتزام بمسارات تسوية لا تتفق مع رؤية اليمين الإسرائيلي الحاكم، الذي يسعى للهيمنة والتوسّع وتحويل الشرق الأوسط لمنطقة نفوذ إسرائيلية. 

المشهد الراهن في المنطقة يبدو أكثر تعقيداً في حالة فلسطين وغزة تحديداً، منها في لبنان ومختلف جبهات المقاومة في المنطقة، ففي لبنان توجد حكومة رسمية معترف بها دولياً تحظى بقبول دولي وعربي رسمي وأميركي، ويمكن للولايات المتحدة التفاوض معها، وممارسة الضغط عليها، أو التوصّل إلى حلول وسط، أمّا في غزة، فلا توجد حكومة، وترفض "إسرائيل" حالياً تولّي السلطة الفلسطينية إدارة غزة لأسباب سياسية وأيدلوجية للحكومة الإسرائيلية، كذلك لا يوجد موعد محدّد لبدء عمل الإدارة الموقتة لغزة، ولا يُعرف متى ستُشكَّل "قوة الاستقرار" الدولية؛ الأمر الذي يتطلّب التفاوض مع الطرف الفلسطيني الذي تمثّله المقاومة وتحديداً حركة حماس، من خلال الوسطاء، وربما ستعاود الولايات المتحدة التفاوض معها مباشرة.

وهذا لن يكون سابقة جديدة؛ فالمفاوضات المباشرة بين واشنطن و"حماس"، والتي أثارت ضجة إسرائيلية كبيرة في شباط/فبراير الماضي، عقب لقاء مبعوث ترامب آدم بوهلر ممثّلي "حماس" في الدوحة، أصبحت الآن أمراً شبه عادي، بعد أن التقى كلّ من ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر في مصر رئيس وفد التفاوض خليل الحية، ويبدو أنّ مزيداً من هذه اللقاءات المباشرة من المتوقّع حدوثها في المستقبل القريب، ما يعني أنّ إعاقة "إسرائيل" للانتقال للمرحلة الثانية، سيمنح "حماس" المبرّر والشرعية للبقاء كجهة تدير قطاع غزة – ولو مؤقتاً– ويجعلها فعلياً لا بديل عنها لإدارة غزة، حتى لو لم تكن شريكاً رسمياً في الحكم، بيد أنه من جهة أخرى سيدع الباب موارباً أمام "إسرائيل" للعودة إلى الهجوم على غزة بحجة بقاء حماس كجهة حاكمة تحتفظ بالسلاح، وتحويل غزة للنموذج اللبناني، من دون الاضطرار لعودة حرب الإبادة بشكلها السابق.

قد لا يخشى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العودة للحرب بشكليها العنيف أو الأقل عنفاً، بيد أنّ ما يخشاه أن يرى ترامب في "حماس" تنظيماً يجب التفاهم معه على أمل أن يصبح أكثر براغماتية، في ضوء تصريحات سابقة له أشار فيها بأنّ "إسرائيل" لم تتمكّن من القضاء على حماس وأنّ الأخيرة تتمتع بالقوة والذكاء، وذلك على غرار السياسة التي اتبعها ترامب مع حركة طالبان في أفغانستان، ومع  النظام السوري الجديد، كما أنه لم يطالب بحلّ تنظيم حزب الله اللبناني.

في ضوء المتغيّرات المتسارعة لا يمكن حسم مآلات المرحلة الانتقالية الحالية في المنطقة، بيد أنها تظهر مزيداً من التحدّيات للطرف العربي الذي يتمسّك بخيار المقاومة كوسيلة شرعية للتحرير ومواجهة العدو، بيد أنّ التحدّيات تبقى ماثلة أمام الحكومة الإسرائيلية الحالية غير القادرة على تجاوز الأبعاد الأيدولوجية والحسابات السياسية الحاكمة لها.

وسط تعقيدات المشهد تبدو الإدارة الأميركية أكثر عزماً على اقتناص الفرص لتحقيق أهدافها في المنطقة من منطلقات تراها أكثر واقعية تراعي المصلحة الإسرائيلية بعيون أميركية وليس بعيون حكومة اليمين الإسرائيلية.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.