في غزة.. عندما ينتصر الصبر على الجوع!

في غزة يمتشق الشعب الفلسطيني سلاح الصبر إلى جانب أسلحته المتواضعة الأخرى، والتي تمكّنت طوال أشهر الحرب السابقة من إنزال هزائم كُبرى بـ"جيش" الاحتلال المجرم.

  • في غزة يعاني أكثر من مليونين وربع المليون من المُحاصَرين من تجويع حقيقي.
    في غزة يعاني أكثر من مليونين وربع المليون من المُحاصَرين من تجويع حقيقي.

لا نبالغ عندما نقول إن ما يحدث من إجرام إسرائيلي ضد سكّان قطاع غزة يُعدّ فريداً من نوعه، ولا نكاد نرى له مثيلاً في العهد الحديث، إذ إن حجم العنف المُمارس ضدّهم، وما نتج عنه من خسائر بشرية ومادية قد بلغ مستويات قياسية لم نشهدها في أيٍ من الصراعات السابقة على مدى عشرات السنين الماضية، بل وزد على ذلك أن هذا العنف بأدواته المختلفة التي يُعدّ الجزء الأكبر منها مخالفاً للقانون الدولي يُمارس ضدّهم أمام بصر العالم كله وسمعه، وتحت مراقبة ومتابعة من كل المؤسسات الدولية المصنّفة "إنسانية"،  والذين اكتفوا جميعاً بتوجيه عبارات الشجب والاستنكار المعتادة، والتي تحوّلت إلى نغمة مملّة وممجوجة لحفظ ماء الوجه فقط، في حين لم تنجح في إحداث أي تغيير يُذكر على أرض الواقع، الذي بات مأساوياً، وكارثياً إلى حدٍّ كبير.

في عدوانه الهمجي على قطاع غزة والمستمر بوتيرة متصاعدة منذ واحد وعشرين شهراً، استخدم العدو الصهيوني كل ما في جعبته من إمكانيات عسكرية واستخبارية ونفسية، ولجأ إلى كل الأدوات القذرة التي حرّمتها قوانين الحروب، بل وحوّل احتياجات السكان المدنيين في القطاع المنكوب إلى سلاح قاتل، يحاول من خلاله دفعهم إلى الكفر بعدالة قضيتهم، والتنكّر لجملة حقوقهم، وصولاً إلى إجبارهم على تفضيل خيار الرحيل من أرضهم، على خيار البقاء فيها والتمسّك بها.

فمن القتل قصفاً بالصواريخ الثقيلة، والتي تُحيل أجساد الفلسطينيين إلى رماد، والتي أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من ستين ألفاً منهم، إلى جانب إصابة عشرات الآلاف الآخرين، مروراً بسياسة تدمير المنازل والبيوت والبُنى التحتية المختلفة، والتي حوّلت أكثر من ثمانين في المئة من مناطق القطاع العمرانية إلى مناطق غير صالحة للسكن، وصولاً إلى حملة التجويع والإفقار الممنهجة والواسعة، والمستمرة بتداعياتها الكارثية للشهر الخامس على التوالي، تاركة ندوباً واضحة وجليّة على أجساد المواطنين البسطاء، والذين نهشهم الجوع كما لم يحدث من قبل، حتى في مراحل الحرب الماضية، والتي وإن شهدت أحوالاً مشىابهة، إلا أنها لم تصل إلى هذا المستوى الوحشي والمجرم واللاإنساني.

في غزة الفقيرة والمُحاصرة من العدو والشقيق، تبدو أوضاع الناس في أسوا حالاتها، ولا تكاد تسمع أو تشاهد سوى مزيد من المآسي والنكبات التي لا تنتهي، والتي لا يبدو في الأفق القريب أنها ستجد الحلول المناسبة لتجاوزها، أو تدارك تداعياتها الخطيرة والمرعبة، والتي ستترك من دون أدنى شك تأثيرات طويلة المدى على مجمل حياة سكّان القطاع، لا سيّما على أوضاع الناس الصحية والمعيشية، بالإضافة إلى نظرتهم إلى المستقبل القريب والبعيد، والتي بات يغلب عليها فقدان الثقة بالجميع من دول وأنظمة وشعوب.

في غزة الصغيرة والتي كانت جميلة يوماً ما، بلغ الجوع من الناس مبلغه، وضرب بسوطه الغليظ أجسادهم الضعيفة والمتهالكة، والتي أصبحت لا تقوى على السير لبضع عشرات من الأمتار فقط، كيف لا وهذه الأجساد قد فقدت كل ما تحتاج إليه من مقوّمات تُعينها على مواجهة أعباء الحياة المختلفة، وأصبحت مجرّد هياكل عظمية تنتظر إصدار شهادة وفاتها، بل وتحوّلت إلى توابيت من عظام تحمل بين ثناياها أرواحاً مُنهكة ونفوساً مُتعبة.

يمكن للذين يكتبون مشكورين عن مأساة غزة من خارج حدودها أن يصفوا حال أهلها، مستخدمين عبارات عاطفية مؤثرة،  يستدرّون من خلالها عطف القرّاء، بل ودموعهم أيضاً، لا سيّما أن الحصول على المعلومات اللازمة للكتابة اليوم بات أمراً مُتاحاً في ظل وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة، والتي تنقل مجريات الأحداث إلى جميع مناطق العالم، ولكنهم أي هؤلاء الكتّاب لن يستطيعوا بأيّ حال من الأحوال أن يشعروا بما يشعره أهل غزة، إذ إن المشاعر لا تُنقل عبر أثير الفضائيات والإذاعات، ولا تُوصف من خلال بعض المشاهد، بل هي بحاجة إلى المعايشة عن قرب حتى يتم التعرّف إليها، والتيقّن من مستوى صدقيّتها،  خصوصاً إذا كانت متعلّقة بحياة أناس بسطاء لا يُتقنون فن التمثيل الذي برع فيه آخرون من أصحاب الثورات المصطنعة،  ولا يُحسنون انتقاء الكلمات والأوصاف كما اعتدنا من البعض الذين فُتحت لهم شاشات كبرى القنوات في ساحات أخرى.

في غزة ومن أجل أن تكتب عن أحوالها فأنت بحاجة لأن تعاني مثل ما يعاني أهلها، وأن تعاين عن قرب كل ما يجري فيها من فصول المأساة والكارثة، بل وزد على ذلك أنك بحاجة لأن تتغلغل في قلب التفاصيل، وأن تُبحر في عمق الأحداث، فرُبّ حدث صغير بالنسبة إلى من يشاهدون غزة عن بعد، وهو في حقيقة الأمر عبارة عن كارثة كُبرى لمن يعايشونه ويكتوون بناره.

في قطاع غزة المذبوح من الوريد إلى الوريد، والمخذول من القريب والبعيد، نكتب ونحن نكاد نطّلع على كل صغيرة وكبيرة فيه بحكم معايشتنا وعملنا، يمكن أن نرى حجم الألم والوجع بتجلّياته كافة من دون أي تجميل،  ويمكن أن نلمس مباشرة ومن دون أي عوائق أو حواجز أنواع القهر والمعاناة التي تضرب كل من يوجد فيه، ويعيش المأساة داخل جدرانه، هذه الجدران التي وضع العدو معظمها، إلا أن البعض منها وُضع بقرار عربي وإسلامي، وبأيدٍ كنا نعتقد أنها ستكون عند الحاجة بلسماً لجراحنا، وترياقاً لآلامنا، إلا أننا اكتشفنا للأسف أنها مجرّد معول هدم لبنيان قضيتنا، ويد سجّان تمارس الدور نفسه الذي يمارسه عدونا.  

في غزة يعاني أكثر من مليونين وربع المليون من المُحاصَرين من تجويع حقيقي، يكاد يفتك بما تبقّى من أجسادهم، وربما في وقت قريب من عقولهم،  إذ إن منع الاحتلال دخول المساعدات الدولية بأنواعها كافة إليهم، إلى جانب تدميره وتخريبه كل مقوّمات الحياة الأخرى، والتي كانت تنتج بعض ما يمكن أن يعينهم على مواجهة أعباء الحياة الكارثية، قد أدّى إلى نشوء موجة عارمة من الفقر والجوع غير المسبوقين، واللذين لم يسبق لهما أن حلّا بأهالي هذا الشريط الساحلي الصغير، والذي كان وعلى الرغم من الحصار الذي يتعرّض له منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً يُنتج كثيراً مما يأكل، ويصنع كثيراً مما يحتاج، بل وكان يُصدّر في بعض الأحيان إلى دول مجاورة كبيرة كثيراً من احتياجاتها، لا سيّما على صعيد الخضار والفواكه، التي تعرّض قطاعها في غزة إلى دمار هائل بفعل سياسة تجريف المزارع، والسيطرة على معظم المناطق التي كانت تُؤمّن سلّة غذاء غزة الأساسية، وخصوصاً في محافظات خان يونس ورفح وغزة.

إلا أنه في مقابل هذه المأساة، والتي تمثّل وجه غزة الحزين والدامي، يوجد وجه آخر لا يكاد يعرفه معظم الناظرين إلى حالها من بعيد، ولا يمكن أن يشعر به من يُناظر أوضاعها عبر وسائل الإعلام المختلفة، هذا الوجه يُعدّ أمضى الأسلحة لمواجهة سلاح التجويع والإفقار، وهو بحاجة إلى إرادة قوية، وعزيمة ثابتة، وإيمان لا يتزحزح بمشروعية القضية، وعدالة الرسالة، بل هو بحاجة إلى تحدّ من نوع آخر، لا يشبه أي نوع آخر من التحديات، لأنه ببساطة سلاح من دون ذخيرة، ومن دون مقوّمات، وهو لا يملك سوى عنفوان صاحبه، الذي أُلقيت في وجهه كل أنواع الكوارث دفعة واحدة، بفعل خطّة شيطانية أُعدّت بعناية في غرف عمليات يقودها الأميركي، وينفّذ خطواتها الإسرائيلي، وتسهم فيها بطريقة أو بأخرى دول إقليمية وعربية وإسلامية، خلعت حجاب الخجل، وكشفت عن وجهها السافر كما لم يحدث من قبل.

في غزة يمتشق الشعب الفلسطيني سلاح الصبر إلى جانب أسلحته المتواضعة الأخرى، والتي تمكّنت طوال أشهر الحرب السابقة من إنزال هزائم كُبرى بـ"جيش" الاحتلال المجرم، وتكبيده خسائر فادحة في الجنود والمعدّات، اضطر في كثير من المناسبات إلى الاعتراف ببعضها، مع إخفاء معظمها حفاظاً على معنويات جنوده في غزة، والذين يعانون من أوضاع نفسية صعبة، ومن إرهاق وإجهاد جعلاهم يرتكبون كثيراً من الأخطاء التكتيكية والعملياتية كما تُقر الصحافة الإسرائيلية.

في غزة بات سلاح الصبر مُعادلاً موضوعياً واستراتيجياً لسلاح التجويع، وهو وعلى الرغم من كونه سلاحاً إجبارياً اضطر الفلسطينيون إلى اعتماده في مواجهة الكوارث والأزمات، إلا أنه شكّل ردّاً مناسباً يعفيهم من تقديم تنازلات كارثية سعى الاحتلال وشركاؤه لدفعهم إليها،  ومثّل صفعة لكل أعداء هذا الشعب،  الذين راهنوا على انكساره وسقوطه تحت ضغط ما يعانيه من صعوبات، وما يُرفع في وجهه من أسلحة وأدوات، بل وحوّل المحنة التي أشهرها العدو في وجوههم، إلى منحة قد تؤدي في ما مرحلة قريبة إلى وقف حرب الإبادة الجماعية التي تُمارس ضدهم من دون أي هوادة.

في غزة الصابرة والمحتسبة بتنا نعتقد أن صبر الناس لن يكون بلا ثمن، وبتنا نرى بشائر هذا الصبر الإعجازي والتاريخي في كثير من التطورات، والتي في حال حدوثها ستشكّل لطمة على وجوه كل المجرمين، وفي المقدمة منهم العدو الصهيوني، وحليفه الأميركي الظالم، ومعهم باقي جوقة الإجرام الدولي والغربي والعربي، والذين يرمون الشعب الفلسطيني عن قوس واحد، مستخدمين أدواتهم القذرة، وإمكانياتهم غير المشروعة.

في غزة نحن على ثقة أن الفرج قريب،  وأن اليسر أكيد،  وأن العسر ذاهب إلى غير رجعة، وهذا كله ليس بفعل جهود الوسطاء، ولا انكفاء الاحتلال وتراجعه، وإنما بفعل صمود هذا الشعب، والذي سيجد في نهاية المشوار نتيجة جهده وجهاده وصبره من دون أي شك، وهذه النتيجة ستكون بإذن الله نصراً وعزّاً وتمكيناً راسخاً،  وستكتب بلا أدنى شك نهاية عصر هذه "الدولة" المارقة، التي أرادت إدخال الجميع في عصرها التلمودي بقوة الحديد والنار، غير أن سنّة التاريخ تقول غير ذلك، فهي ستذهب كما ذهب الأشرار من قبلها، وسترحل عن هذه الأرض إلى غير رجعة بفعل صمود الشعب الفلسطيني العظيم، ودعم أنصاره وحلفائه في المنطقة والإقليم.