قمة شنغهاي... هل تنجح بكين في لملمة الفوضى التي أحدثها ترامب؟

استثمارت الصين في دول منظمة شنغهاي بلغت 84 مليار دولار. كما تعهد الرئيس الصيني بتقديم منح بقيمة 275 مليون دولار لدول المنظمة، وتقديم قروض بقيمة 10 مليار يوان للبنوك الأعضاء خلال 3 سنوات. 

  • يبدو أن فكرة
    يبدو أن فكرة "احتواء الصين" باتت من الماضي.

عُقدت في مدينة تيانجين الصينية أكبر قمة في تاريخ منظمة شنغهاي منذ تأسيسها عام 2001، بمشاركة أكثر من 20 زعيم دولة، و10 منظمات دولية. وكان من أهم نجاحات القمة تلاقي الهند والصين وعودة الرحلات الجوية بين الجانبين.

تعد تيانجين مركزاً صناعياً رئيساً يشهد توسعاً سريعاً في إنتاج الحواسيب والروبوتات وصناعة السيارات. وقد حققت نمواً اقتصادياً يقدر بـ 5.8% خلال الربع الأول من هذا العام، ليصل إلى 57.5 مليار دولار. كما تسارع نمو قطاع التصنيع فيها خلال الربع الأول من هذا العام بنسبة 7.8% بدعم من تصنيع المعدات.

تيانجين لديها أحد أكبر الموانئ ازدحاماً في العالم، يربط الصين بالأسواق الأوراسية عبر مبادرة الحزام والطريق، وهو ثاني أكبر ميناء في الصين من حيث حجم الشحن.

شهدت القمة أول زيارة لرئيس الوزراء الهندي مودي إلى الصين منذ 7 سنوات، في الوقت الذي يواجه البلدان رسوماً تجارية مرتفعة فرضتها إدارة ترامب. 

الخلافات بين الهند والصين كبيرة، والحساسيات التاريخية بين شعبيهما متجذرة. وعلى الرغم من ذلك، فقد نجح قادة البلدين في إيجاد نقاط مشتركة يمكن البناء عليها، وصولاً إلى كسر الجمود في العلاقات بين أكبر بلدين في العالم من حيث عدد السكان، فمن النزاعات الحدودية المتكررة، وصولاً إلى دعم الصين لباكستان في حربها الأخيرة مع الهند، وصولاً إلى مشروع الحزام والطريق الصيني الذي تخشاه الهند، ليس بسبب المنافسة الاقتصادية بين العملاقين الآسيويين فقط، بل لأنه يمر عبر إقليم كشمير المتنازع عليه تاريخياً بين الهند وباكستان.

"تفعيل الهند" استراتيجية عملت عليها الإدارات الأميركية السابقة لتكون الهند في مواجهة الصين، وبالتالي التخلص من الصعود الآسيوي الذي بات يقلق الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً.

"الممر الهندي" لم يكن سوى مشروع أميركي أطلقه الرئيس بايدن في قمة العشرين التي عقدت في 10 سبتمبر 2023 في الهند، الهدف منه منافسة الحزام والطريق الصيني وتكريس مركزية إسرائيل وقيادتها للشرق الأوسط. 

الصين ثاني أكبر شريك تجاري للهند بعد الولايات المتحدة الأميركية، إذ تجاوزت الصادرات الصينية للهند 128 مليار دولار. فالهند سوق مهمة للصين، وخصوصاً أن الطبقة الوسطى في الهند آخذة في الازدياد نتيجة تحسن الأوضاع الاقتصادية، وهي الطبقة المستهلكة للبضائع الصينية بشكل كبير. 

الرسوم التجارية التي فرضها ترامب على الهند وصلت إلى 50%، بسبب شرائها النفط الروسي الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، إذ تستورد يومياً 1750 ألف برميل، لتكون موسكو المصدر الأول للنفط الذي تحتاجه الهند، إذ تؤمن لها نحو 35% من احتياجاتها، مستفيدة من الامتيازات التي تقدمها موسكو في هذا الإطار.

وقوف الصين إلى جانب باكستان في صراعها الأخير مع الهند أسهم في الوقف السريع للحرب بسبب الأسلحة المتطورة التي قدمتها الصين لباكستان، في مقابل تخاذل الولايات المتحدة وادعاء ترامب أنه هو من أوقف الحرب.

رغبة بايدن في أن تقوم الهند بترشيحه لجائزة نوبل للسلام على غرار ما فعلت باكستان لم تلقَ قبولاً من مودي، الذي رأى أن ذلك غير صحيح، وأن الولايات المتحدة الأميريكية لم تعد قادرة على الوقوف إلى جانب حلفائها كما فعلت الصين.

الهند والصين تسيران بخطى ثابتة، وتضعان خططاً لاستكمال بناء الدولة، فالهند بحاجة إلى الصين لبناء "الهند المتقدمة" التي تطمح للوصول إليها عام 2047. ولتحقيق ذلك، فهي بحاجة إلى التكنولوجيا والمعادن الصينية لتطوير صناعاتها.

قدرة بكين على تحييد الهند تسهم في كسر طوق التحالفات التي تسعى واشنطن لنسجها حول الصين، وخصوصاً أن الهند جزء من تحالف كواد الذي تقوده الولايات المتحدة.

الرسائل السياسية للقمة

في زمن تتصدع المنظومات الغربية تحت وطأة الأزمات، تظهر من الشرق كتلة تحمل ملامح بديل عالمي. منظمة شانغهاي للتعاون لم تعد اجتماعاً إقليمياً عابراً، بل مشروع قوة متنامية تجاوز حجم تجارتها مع الصين 2 تريليون و300 مليار دولار. 

التطورات الجيوسياسية على مستوى العالم حتمت على دول المجموعة المزيد من التقارب في ما بينها. لذا، فقد سعى المجتمعون في تيانجين إلى إيصال رسائلهم السياسية ورغبتهم في تشكيل نظام عالمي جديد، فعقلية الهيمنة لم تعد مقبولة، ولدول الجنوب الحق في إيصال صوتها، والاقتصاد يتوجه شرقاً، والعالم يعيش "القرن الآسيوي".

في قلب المشهد، لا يطل شي جيبن بينغ وحده بدعوات لمواجهة عقلية الحرب الباردة والرهان على الذكاء الاصطناعي كجبهة صراع جديدة، بل يحضر معه فلاديمير بوتين الذي يحضر القمة كصوت يذكر بأن موسكو لم تخرج من معادلة القوة. 

تحتل الصين صدارة الدول الآسيوية بالاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو المحور الرئيسي للذكاء الاصطناعي بين دول منظمة شنغهاي. ويشير معهد ستالفورد للذكاء الاصطناعي إلى أن الصين استثمرت 9.3 مليار دولار في مجال الذكاء الاصطناعي عام 2024، فيما تشير التقديرات الأميركية إلى أن الصين استثمرت 98 مليار دولار خلال هذا العام فقط. 

كازاخزستان لم تكن غائبة في هذه القمة، وطالبت بأن تكون هناك دورات تدريبية وبناء جسر للاقتصاد الرقمي بين دول المنظمة. 

بوتين المثقل بظلال المواجهة مع الغرب يرى في منظمة شنغهاي منصة لإعادة التموضع وكسر الطوق الغربي عبر تحالفات شرقية أوسع. 

وفي الخلفية يلوح ترامب كشبح اقتصادي وسياسي، رسومه الجمركية وصداماته مع أعضاء المنظمة تجعل في غيابه حضوراً ثقيلاً، وخصوصاً أنه يسعى لدوام احتكاره لقواعد اللعبة.

أربعة ملفات ناقشتها القمة، فقد ركز القادة على قضايا الأمن القومي، والتحول الرقمي، والتنمية المستدامة، والتوسع الجغرافي للمنظمة لتشمل دولاً جديدة.

كما ناقشت القمة الحرب في أوكرانيا، والضغوط الدولية على إيران، وما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة الحيوية لجميع دول العالم، والتي تشهد اليوم إعادة رسم خرائطها بالدم.

أكثر من عشرين زيارة كان قد قام بها الرئيس الروسي إلى الصين. ورغم ذلك، فقد قالت وسائل الإعلام الصينية واصفة هذه الزيارة: "ليس لها مثيل".

حرصت القمة على عدم استفزاز الولايات المتحدة، وأن القمة ليست موجهة ضد أحد، لكن ترامب التقط الرسالة واستفز، ووجه كلاماً للرئيس الصيني شي قائلاً له: "أبلغ تحياتي لبوتين وزعيم كوريا الشمالية، فهما يتآمران ضد الولايات المتحدة الأميركية".

سياسة الإملاءات من قبل أميركا لم تعد مرغوبة لدى العديد من دول العالم، وخصوصاً أنها فقدت الجزرة التي يمكن أن تقدمها لدول العالم، ولم يبقَ لديها سوى العصا التي تخيف بعض الأنظمة التي تدور في الفلك الأميركي.

نموذج التنمية الصيني بات الأكثر إدهاشاً للعالم، والجزرة التي تمتلكها الصين تحظى بالقبول الرسمي والشعبي. لذا رأينا التمدد الصيني، إذ باتت الصين الشريك التجاري الأول لأكثر من 150 دولة على مستوى العالم.

استثمارت الصين في دول منظمة شنغهاي بلغت 84 مليار دولار. كما تعهد الرئيس الصيني بتقديم منح بقيمة 275 مليون دولار لدول المنظمة، وتقديم قروض بقيمة 10 مليار يوان للبنوك الأعضاء خلال 3 سنوات. 

من الاقتصاد إلى العسكرة

بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، حضر زعماء أكثر من عشرين دولة على مستوى العالم عرضاً عسكرياً أقيم في بكين بمناسبة الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الشعب الصيني على العدوان الياباني.

لم يكن الحدث مجرد استعراض عسكري، بل مناسبة لتوجيه رسائل سياسية بأن الصين باتت اليوم أقدر وأقوى على منع أي اعتداءات عليها.

لم يفت الرئيس الصيني طمأنة العالم والتذكير بأن الصين لم تقم يوماً باحتلال أحد، في الماضي والحاضر، ولن تكون كذلك في المستقبل.

الأسلحة النوعية التي عرضتها الصين لا تشكل شيئاً مما تمتلكه بكل تأكيد، لكنها اختارت بعناية ما تريد إظهاره للعالم، في رسالة تهدف إلى الردع بكل تأكيد.

استكمال بناء الجيش الصيني ليكون قادراً على خوض الحروب الخارجية أمر كان الرئيس الصيني قد أخذه على عاتقه، ووضع له جدولاً زمنياً ينتهي في العام 2027، لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الصيني.

حضور زعماء كل من الهند وروسيا وإيران كان لافتاً، وأرسل رسائل بأن هذه الدول باتت في خندق واحد لمواجهة الهيمنة الأميركية.

رد فعل ترامب جاء سريعاً، لكن علينا أن نتوقع منه فعلاً لا يقل حماقة عن رد فعله. ومن المتوقع أن يكون هناك تصعيد مقبل في تايوان، باعتبارها القضية التي لا تقبل الصين المساومة عليها.

الرئيس الصيني كان قد تعهد بحل مشكلة تايوان (سلماً أو حرباً)، وخصوصاً أنه يرى أن سيادة الصين لا تزال منقوصة، وأنها لن تكتمل إلا باسترجاع تايوان.

صحيح أن بكين تتحدث بلغة هادئة، لكنها في الوقت نفسه توجه رسائل مؤلمة إلى الولايات المتحدة، وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

يبدو أن فكرة "احتواء الصين" باتت من الماضي، ولغة التعالي هي أكثر ما يغضب القيادة الصينية التي تذكر دوماً بأن عصر الهيمنة الغربية ولى، وأن الصين لن تقبل بالعودة إلى "قرن العار" الذي ضحى الشعب الصيني كثيراً لنسيانه. 

أميركا اليوم لم تعد تمتلك سوى العصا المتمثلة بوجود 810 قواعد عسكرية أميركية في دول العالم. أما الصين، فلديها الجزرة التي تجعل العديد من الدول ترغب في التعاون معها.

سعي دول العالم لاقتناء الذهب والتخلص من الدولار أكبر دليل على فقدان الثقة بالنظام المالي والاقتصادي الأميركي، والخوف من استخدام الدولار كسلاح في وجه الدول الراغبة في الخروج من العباءة الأميركية.