كيف يمكن لتركيا الاستفادة من الواقع الجديد في سوريا

المشاريع الواعدة بين سوريا وتركيا تواجه تحديات سياسية واقتصادية، وبحاجة إلى تأمين بيئة آمنة، وهو ما يتطلب حل جميع المشكلات في المنطقة، وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني.

  • الكعكة السورية ونصيب تركيا منها...
    الكعكة السورية ونصيب تركيا منها...

سوريا وتركيا بلدان متجاوران تربطهما حدود برية يصل طولها إلى 910 كم، فيها ثمان بوابات جمركية، كثيراً ما كانت مغلقة نظراً لتوتر العلاقات السياسية بين البلدين.

توتر العلاقات بين البلدين يعود إلى عدد من الملفات العالقة بينهما، بدءاً من قضية لواء اسكندرونة الذي احتلته تركيا في العام 1939، مروراً بقضية حزب العمال الكردستاني والموقف التركي من "إسرائيل"، حيث كانت أول دولة إسلامية تعترف بـ"إسرائيل" منذ تأسيسها في العام 1948، وأقامت علاقات دبلوماسية معها في العام 1949.

أزمة المياه بين البلدين، والاتفاق العسكري التركي- الاسرائيلي في العام 1996 الذي كان الهدف منه محاصرة سوريا من الشمال والجنوب، أديا إلى توتر العلاقات بين البلدين.

رد سوريا كان بإيواء عناصر لحزب العمال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان، وهو ما أدى إلى حدوث أزمة بين البلدين في العام 1997، وتهديد تركيا باجتياح الأراضي السورية.

انتهت الأزمة بتوقيع اتفاق أضنة في العام 1998، الذي مهد لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، وخروج أوجلان من دمشق إلى نيروبي حيث اعتقل وأخذ إلى تركيا، ولا يزال معتقلاً حتى اليوم.

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003، والضغوط الأمريكية على سوريا، والتوتر بين سوريا وباقي الدول العربية والأوربية، نتيجة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، كانت تركيا بمثابة "طوق النجاة" لسورية، فتطورت العلاقات بين البلدين وبشكل كبير.

الانفتاح التركي على دمشق لم يستمر طويلاً، حيث قطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قيام الثورة السورية والموقف التركي الداعم لها.

دور تركيا في اسقاط نظام الأسد..

كانت تركيا لاعباً أساسياً في الحرب في سوريا، حيث استضافت اللاجئين السوريين وقدمت الدعم المادي والعسكري للمعارضة السورية المسلحة، كما لعبت دوراً في تسهيل عبور المقاتلين الأجانب إلى سوريا.

كذلك كانت تركيا جسراً لعبور اللاجئين السوريين إلى أوربا، وهي الورقة التي استطاعت من خلالها أنقرة ابتزاز الدول الأوربية واجبارها على تقديم التنازلات.

نجاح تركيا في فرض مناطق خفض التصعيد في الشمال السوري، سمح للمعارضة السورية في ترتيب صفوفها وحماها من غارات الطيران السوري والروسي في تلك المناطق.

الحرب الأوكرانية زادت من أهمية أنقرة لكلا الجانبين (الروسي والغربي)، وباتت موسكو مستعدة أكثر لتقديم التنازلات لتركيا في سوريا.

روسيا باتت ترى في الأسد ونظامه عبئاً عليها، كما أنه من الصعب عليها فتح جبهتين في وقت واحد، لذا فقد تراجعت عن دعمه وشرعت في الدخول في صفقة سياسية تضمن لها حماية أمنها القومي وصولاً إلى وضع نهاية للحرب في أوكرانيا.

تركيا كانت اللاعب الرئيس في إسقاط نظام الأسد، وبات عليها السعي لقطف ثمار سياستها في سوريا، وهو ما يتطلب منها انتهاج سياسة براغماتية بعيداً عن عقلية الهيمنة والوصاية.

الكعكة السورية ونصيب تركيا منها...

بعد ثلاث عشرة سنة من الحرب باتت سوريا بلداً مدمراً وبحاجة إلى كل شيء، لكن موقعها الجغرافي الهام وثرواتها الطبيعية كفيل بتأمين الفاتورة اللازمة لإعادة اعمارها.

بعد سقوط نظام الأسد تراجعت تركيا "خطوة إلى الوراء"، لتحمل الدول العربية مسؤولياتها في دعم استقرار سوريا والمساهمة في إعادة إعمارها.

المصالح التركية في سوريا باتت مصانة، خاصة وأنها أسهمت في دعم الحكومة الانتقالية في سوريا وأوصلتهم إلى سدة الحكم، وقامت بتقديمهم لدول العالم الذي انبرى لزيارة دمشق تعبيراً عن رغبتهم في تحقيق الاستقرار في هذا البلد، حماية لمصالح تلك الدول، والحيلولة دون تحول سوريا إلى دولة فاشلة، وبالتالي حدوث موجة ثانية من الهجرة إلى الدول الأوربية التي لم تعد قادرة على تحمل تبعات ذلك.

تشير التقارير الدولية إلى تدمير حوالي 328 ألف منزل في سوريا، والحاجة إلى تحديث الموانئ والطرقات والمطارات السورية، وهو ما يمكن أن تقوم به الشركات التركية التي تمتلك خبرة كبيرة في هذا المجال.

الاقتصاد السوري بات اليوم مدمراً ويقدر بـ 9 مليار دولار فقط، بينما كان في العام 2010 حوالي 67.5 مليار دولار، أي أن نسبة الانكماش في الاقتصاد بلغت حوالي 85%.

90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، ونصف سكان سوريا يتوزعون ما بين نازح ولاجئ، مع ما يرافق ذلك من سوء تغذية وفقدان حقهم في التعليم، وما يترتب على ذلك من آثار نفسية مدمرة.

إعادة إعمار سوريا هو أكبر مشروع إعادة إعمار في التاريخ، حيث يحتاج إلى 600 مليار دولار وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بينما تشير تقديرات جامعة الدول العربية إلى أن ذلك يحتاج إلى 900 مليار دولار.

يكفي أن نشير هنا إلى أن مشروع مارشال لإعادة إعمار أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية لم تتجاوز تكلفته الـ 13.5 مليار دولار فقط.

الدور التركي سيكون مكملاً للدور العربي...

إعادة إعمار سوريا يجب أن يكون مشروعاً دولياً ترعاه الأمم المتحدة وتتعهد الدول الكبرى بتقديم الدعم اللازم لذلك، لكن واقع الحال قد لا يكون كذلك.

فالولايات المتحدة برئاسة ترامب يبدو أن سوريا لن تكون في أولوياتها، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا المنشغلة بالحرب في أوكرانيا، والتي لم تعد قادرة على تحمل أعبائها الاقتصادية.

كذلك فإن دول الاتحاد الأوربي تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة بدأت مع انتشار فيروس كورونا في العام 2020، وانتهت بتحملها لنفقات الحرب في أوكرانيا، وما عانته تلك الدول نتيجة لقطع علاقاتها مع روسيا ودخولها في حرب تجارية مع الصين. 

تركيا تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، وتراجع في قيمة ليرتها، رغم الإستفادة التي حققتها من الحرب الأوكرانية وحاجة جميع الأطراف للتعامل معها.

الدول العربية ليست بأحسن أحوالها، والحديث عن إعادة الإعمار يعني دخول دول الخليج على الخط وتقديمها المساعدات اللازمة، واقامة الاستثمارات في سوريا.

الحكومة الجديدة في سوريا عليها أن تفكر بتأمين البيئة اللازمة للاستثمار في سوريا، والابتعاد عن طلب المساعدات، فالتسول لا يبني دولاً، والدول ليست جمعيات خيرية.

من هنا يمكن أن تفكر تركيا وغيرها من الدول في السعي للحصول على استثمارات لها في سوريا، فـ "الكعكة السورية كبيرة"، وسيكون لتركيا "نصيب الأسد" منها.

الإمكانات الاقتصادية لسوريا....

كانت سوريا تاريخياً بلد زراعي، لكن انتاجها الزراعي تراجع نتيجة لقلة المياه، حيث كانت الزراعة تتركز في المنطقة الشرقية، حيث نهري دجلة والفرات. 

قيام تركيا بتقليص حصة كل من سوريا والعراق من المياه أدى إلى زيادة التصحر، وهجرة السكان نحو المدن الكبرى، ما تسبب بحدوث خلل ديمغرافي إضافة إلى الخلل التنموي.

ترى تركيا أن المياه ثروة باطنية ملك لها، وترفض تطبيق الاتفاقيات الدولية الخاصة بتوزيع المياه في الأنهار الدولية.

يبدو أن تركيا أخذت بنصيحة شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق حيث رأى في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أنها يتوجب على تركيا أن تبيع المياه كما يبيع العرب النفط، فكلاهما ثروة باطنية. 

اليوم، وبعد تحسن العلاقات بين سوريا وتركيا فإن أنقرة قادرة على زيادة حصة سوريا من المياه والمساهمة في استصلاح أراضي منطقة حوضي دجلة والفرات، والمساهمة في تأمين احتياجات سوريا من الغذاء، وبما يحقق عائد كبير للشركات التركية المساهمة في هذا المشروع.

وفي مجال الطاقة، كانت سورية في العام 2010 تنتج حوالي 380 ألف برميل من النفط يومياً، وتراجعت هذه الكمية إلى حوالي 40 ألف برميل يومياً في العام 2023.

كما تمتلك سوريا مخزوناً كبيراً من النفط والغاز في منطقة حوض البحر المتوسط، وهو ما دفع تركيا إلى الإعلان عن رغبتها في إعادة ترسيم حدودها البحرية مع سوريا.

للشركات التركية خبرة كبيرة في إعادة تطوير الآبار النفطية وتحسين إنتاجها بما يحقق المنفعة المشتركة لكلا البلدين.

المشكلة في هذا الاطار هو تواجد القوات الأمريكية في منطقة حقول النفط في شرق الفرات (حقلي العمر ورميلان)، وبالتالي يجب العمل على تحقيق الانسحاب الأمريكي من الأراضي السورية أولاً.

الولايات المتحدة ترى أن قواتها تلعب دور "الموازن" في المنطقة لكبح جموح تركيا في التمدد خارج حدودها، خاصة وأن أنقرة باتت اليوم تمتلك "فائض قوة"، ومحاطة بعدد من الدول الضعيفة.

على صعيد الترانزيت، لسورية موقع مميز يجعلها عقدة وصل وطريق لعدد من المشاريع الاقتصادية الكبرى، على الصعيدين الاقليمي والدولي.

مشروع الحزام والطريق الصيني يمر عبر سوريا وصولاً إلى تركيا والبحر المتوسط، لتكون الموانئ السورية محطة للإنطلاق نحو أوربا.

كذلك فإن الممر الهندي يحتاج إلى سوريا التي تربط الإمارات والمملكة العربية السعودية بالبحر المتوسط، (في ظل عدم وجود اتفاقية سلام بين السعودية وإسرائيل)، وصولاً إلى ايطاليا.

كما أن خط الغاز القطري المتجه نحو أوروبا، يمر عبر المملكة العربية السعودية وسوريا وصولاً إلى تركيا، ومن ثم نحو دول الاتحاد الأوربي.

أيضاً سوريا مرشحة لتكون الدولة الخامسة في مشروع خط التنمية العراقي، وهو ما سيدر عليها أرباحاً كبيرة من الجمارك وحركة الترانزيت.

كذلك طريق M4 الذي يربط تركيا بالأردن ودول الخليج العربي يمر عبر الأراضي السورية، وتشير التقديرات إلى أن عدد الشاحنات التي ستمر عبر هذا الطريق سيصل إلى 250 ألف شاحنة سنوياً.

كما أن طريق M5 يمر عبر الأراضي السورية التي تربط العراق بالبحر المتوسط، وبالتالي عوائد كبيرة لسورية وتفعيل لموانئها. 

المشاريع الواعدة بين سوريا وتركيا تواجه تحديات سياسية واقتصادية، وبحاجة إلى تأمين بيئة آمنة، وهو ما يتطلب حل جميع المشكلات في المنطقة، وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني. كما يتطلب مراعاة مصالح كل من إيران وروسيا في المنطقة، باعتبارهما دولتين فاعلتين ولهما ديون كبيرة على سوريا.