ليبيا وأزمة الصراع على الصلاحيات
ما تداعيات أزمة الصلاحيات السياسية والمرجعيات القانونية ومدلولاتها في ليبيا؟ وهل يمكن تجاوز الأزمة أم أنها ستتدحرج؟
-
عن عمق الأزمة السياسية المؤسسية الحاصلة والمزمنة في ليبيا!
كشفت المراسيم الرئاسية الثلاثة التي أصدرها رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا محمد المنفي مؤخراً، حجم الأزمة الحاصلة في المشهد السياسي الليبي، والتي لا تقتصر على صراع الأطراف السياسية في ما بينها، بل تمتد لصراع يتعلق بالصلاحيات التشريعية والتنازع على المناسب السياسية كنتيجة لغياب التوافق الوطني الليبي.
وقد بات الصراع على الصلاحيات مؤخراً السمة الأبرز في المشهد السياسي الليبي وأطرافه، وعليه تطرح أزمة الصلاحيات تساؤلات عدة تتعلق بمستقبل المسار السياسي الليبي، لا سيما في ظل واقع قانوني تتداخل فيه الصلاحيات وتتعدد المرجعيات وغياب دستور دائم ناظم للعلاقات والصلاحيات، فما تداعيات أزمة الصلاحيات السياسية والمرجعيات القانونية ومدلولاتها؟ وهل يمكن تجاوز الأزمة أم أنها ستتدحرج؟
بدأت أزمة الصلاحيات عقب إصدار رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، ثلاثة مراسيم مركزية رئيسية تحت اسم "إنقاذ الوطن"، أول المراسيم: يتعلق بوقف العمل بقانون المحكمة الدستورية؛ الذي أصدره مجلس النواب في آذار/ مارس 2023، والمرسوم الثاني: يتعلق بتشكيل المؤتمر العام للمصالحة الوطنية وكيفية انتخاب أعضائه، أما المرسوم الثالث فتضمن: تفعيل المفوضية العليا للاستفتاء، وبدء أعمالها في مراجعة القوانين والتشريعات الصادرة عن المكوّنات السياسية في المشهد الليبي.
واستند المجلس في إصدار المراسيم الثلاثة إلى مخرجات ملتقى جنيف، إذ يتولى المجلس الرئاسي صلاحياته في إصدار القرارات اللازمة لحماية المسار السياسي. عمومية هذه العبارة ومدلولها الفضفاض يُعدّ أحد أهم أسباب أزمة صراع الصلاحيات الحاصلة في المشهد السياسي الليبي.
ذلك أنه يفترض أن تكون القوانين والتشريعات والمراسيم أولاً: موضع توافق، ثانياً: أن تُفضي إلى وضع خريطة طريق للحل لا أن تُصبح هي المشكلة. والمفارقة أن هذه الأزمة تحدث في لحظة تتطلب فيها ليبيا توافقاً واسعاً حول قاعدة دستورية تفتح الباب أمام الانتخابات، وبالتالي يكشف هذا الصدام عن مدى هشاشة المؤسسات الانتقالية، وعن تعقيد المسار السياسي حتى اللحظة نحو بناء سلطة شرعية موحدة.
ويتضح مما حدث أن التشريع في ليبيا بدلاً من القيام بوظيفته في الفصل بين السلطات وتوضيح الصلاحيات، بات جزءاً من التوظيف في الصراع السياسي الحاصل، إذ يسعى كل طرف إلى إثبات شرعيته القانونية وصلاحياته في إصدار القوانين التي تناسبه من دون مراعاة موقف الأطراف الأخرى الشريكة في الوطن ورأيها ومصالحتها. وهو ما أدى إلى تجدد الصراع على الصلاحيات في مشهد سياسي مُضطرب تتسع فيه الخلافات بين المؤسسات السيادية، وتستقوي به المكوّنات السياسية بالأطراف الإقليمية والدولية.
أفضت المراسيم الثلاثة الصادرة عن المجلس الرئاسي الليبي، لا سيما المرسوم المتعلق بتشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء إلى اتساع رقعة الأزمة السياسية، وإلى حالة من الجدل السياسي والقانوني والانتقادات الحادة لبقية المكوّنات السياسية الليبية. وانقسمت الآراء بشكل حاد حول شرعية هذه المراسيم وتوقيتها، ما يعكس حالة الاستقطاب السياسي والمؤسسي العميق في ليبيا.
وقد قوبل إصدار المراسيم برفض من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي رأى أن المجلس الرئاسي تجاوز حدود اختصاصه واعتدى بشكل مباشر على صلاحيات السلطة التشريعية، مؤكداً أن إصدار القوانين أو إلغاءها يبقى حقاً حصرياً للمجلس النيابي، ولا يجوز لأي جهة، بما فيها المجلس الرئاسي، أن تمارس هذا الدور من دون نص دستوري واضح.
ولم يأت الاعتراض فقط من خصوم المجلس الرئاسي، بل من داخله أيضاً، إذ عبّر عضو المجلس عبد الله اللافي عن رفضه للمراسيم، معتبراً أن إصدارها لم يتم وفق الآلية القانونية التي تقتضي توافقاً جماعياً من أعضاء المجلس. وأكد أن هذه القرارات لا تمثل المجلس الرئاسي مجتمعاً ولا ترتب أي أثر قانوني، في إشارة واضحة إلى الانقسامات العميقة داخل هذا الكيان ذاته، وإلى هشاشة مبدأ التوافق الذي يقوم عليه منذ تأسيسه.
كما طالبت البعثة الأممية لدى ليبيا بعدم إصدار قرارات أحادية الجانب يمكنها إرباك المشهد سياسياً وعسكرياً، مطالبة الجميع بالدفع فقط نحو إجراء انتخابات وحكومة موحدة تحقق الاستقرار في ليبيا. ولا سيما أن البعض ينظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لقطع الطريق أمام لجنة العشرين الاستشارية المشكلة من قبل بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
والملاحظ أنه كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي في ليبيا برزت أزمة سياسية جديدة، وهذه المرة أزمة قانونية تتعلق بالصلاحيات التي أفضت إلى الاشتباك القانوني بين المكوّنات السياسية، والتي من شأنها أن تقوّض أي توافق أو تقدم صوب الحل والخروج من الأزمة، وقدرة النخب الليبية على الخروج من عنق الزجاجة والاتفاق. وعلى الرغم من أن ظاهر مراسيم المجلس الرئاسي إنقاذ الوطن، بيد أنها أفضت إلى نتيجة عكسية تكاد تغرق الوطن في أزمة دستورية وسياسية جديدة تضاف إلى الأزمات الأمنية والاقتصادية المتلاحقة والمحيطة بالمشهد السياسي الليبي.
إن التداعيات التي أفضى إليها إصدار المجلس الرئاسي للمراسيم الثلاثة لا تعكس أزمة صلاحيات بين المكوّنات السياسية فقط في المشهد الليبي، لكنها تحمل في مضامينها جملة دلالات يمكن إيجازها في الآتي:
- أنه لا حلّ في ليبيا من دون توافق معلن وواضح وصريح، لأن بعض الخطوات والقرارات، وإن كان ظاهرها ومقصدها إنقاذ الوطن، فإنها أفضت إلى عكس ذلك، وأصبحت جزءاً من أزمة سياسية وقانونية.
- التصعيد الحاصل في الخلافات ليس وليد لحظة إصدار المجلس الرئاسي للمراسيم الثلاثة، لكنه خلاف موغل ويمتد إلى خلافات سابقة بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب حول صلاحيات كل منهما ودور السلطة القضائية. وأنه بالإضافة إلى تعميق أزمة الصراع حول المناصب السياسية، تعكس هذه القرارات أيضاً عمق الأزمة في ليبيا بين قادة المؤسسات.
- ما حدث يشير إلى تزايد ضعف الهياكل السياسية وتآكل شرعيتها. يتضح ذلك في قرار رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، في استبعاد رئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، المعيّن من مجلس النواب، وتكليف أحمد عون بديلاً منه، وهي الخطوة التي أثارت موجة من الرفض، وفتحت صفحة جديدة من الأزمات التي تعكس عمق الانقسامات المؤسسية في ليبيا. ومن قبلها أزمة الإنفاق الحكومي والصراع المتفجر بين حكومة الدبيبة ومجلس النواب.
- جوهر الخلاف يدور حول نقاط أساسية عدّة في مقدمتها تجاوز الصلاحيات الدستورية والقانونية، لأن إصدار مثل هذه القرارات الأحادية الجانب في هذا التوقيت بالذات، الذي يشهد تحركات نحو توحيد المؤسسات وإنهاء حالة الانقسام، قد يؤدي إلى تقويض هذه الجهود وزيادة حالة الاحتقان السياسي. والمساس باستقلالية القضاء واستخدامه في الصراع السياسي.
- تكشف أزمة الصلاحيات المتصاعدة وما أثارته من ردود أفعال عمق الأزمة السياسية المؤسسية الحاصلة والمزمنة في ليبيا، وتكشف أيضاً هشاشة التوافق الوطني، إذ إن إصدار المراسيم الثلاثة عن المجلس الرئاسي لا يعني دخولها حيّز التنفيذ، ذلك لأن تنفيذها وتطبيقها يحتاج إلى قوة قانونية وتنفيذية، وهو ما لا يتوفر للمجلس الرئاسي، وعلى الرغم من ذلك، أفضت إلى صراع يكاد أن يصبح صداماً بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب.