ماذا يعني تغيير معيار رواتب الشهداء والأسرى الفلسطينيين من النضالي إلى الاجتماعي؟

يأخذ القرار الفلسطيني المتعلق بعوائل الشهداء والأسرى، كامل المشهد الفلسطيني نحو فضاءات غير مسبوقة على المستوى الرسمي، ويتسبب بترددات واسعة.

0:00
  • يتجاوز قطع الرواتب البعد الرمزي الدلالي للاستدارة الخطيرة التي تنفذها السلطة في سياساتها.
    يتجاوز قطع الرواتب البعد الرمزي الدلالي للاستدارة الخطيرة التي تنفذها السلطة في سياساتها.

جاء إصدار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسومه القاضي بتحويل رواتب ذوي الشهداء والأسرى عبر الشؤون الاجتماعية، ليعكس مستوى التحوّلات السياسية التي دخلتها السلطة منذ "طوفان الأقصى"، وتحديداً بعد فوز ترامب في الانتخابات الأميركية، وهو قرار خطير يمس الكينونة السياسية التي أقيمت السلطة على أرضيتها، باعتبارها الامتداد الطبيعي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

وكان رئيس حكومة السلطة محمد مصطفى صريحاً، وهو يفسر مرسوم الرئيس الجديد، أن هذا التحوّل في الدفع ليس إجرائياً ولا شكلياً، ولكنه يُخضع عائلة الشهيد والأسير للفحص الاجتماعي من خلال مؤسسة تمكين، التي يديرها مسؤول فلسطيني له مواقف سلبية مسبقة في هذا الخصوص، وفق ميزان اجتماعي معيشي يتم فيه فحص عائلة الشهيد والأسير في ضوء الحاجة الإنسانية الأولية المتعلقة بالطعام والشراب، وليس تحت عنوان نضالي يعطي هذه العوائل كرامة خاصة، إضافة إلى مراعاة سنوات الأسْر التي قضاها الأسير كما كانت تنص القوانين السابقة، والتي ساعدت عوائل الأسرى على تجاوز المحنة وأهّلت أبناء الأسير للتعليم والتكوين بمستوى اقتصادي متوسط الحال، فيما ستجد عائلة الأسير والشهيد نفسها الآن دون خط الفقر، مع غياب مصدر دخلها الرئيسي.

ماذا يعني نقل المستوى الاقتصادي لعوائل الشهداء والأسرى من الفئة الوسطى إلى الفئة الفقيرة؟ وهل يمكن التحايل المستقبلي على القرار لتبقى الرواتب وفقه كما هي أو قريبة من ذلك؟

يأخذ قرار السلطة عوائل الشهداء والأسرى من المسار الاقتصادي برمته نحو نهايات نفسية وسياسية وأمنية خطيرة، فالأسير الذي ستجد مؤسسة تمكين بعد الفحص أن عائلته فقدت مصدر دخلها الرئيس، لن يجد وفق قاعدة بياناتها المالية ما يتجاوز أساس خُمس ما يتقاضاه الأسير الجديد حالياً، وفي حال حاولت هذه المؤسسة تمييز عوائل الشهداء والأسرى عن بقية الحالات الاجتماعية، فسيكون لذلك مطبات داخلية وأزمات اجتماعية بين فئات المجتمع، والأهم أن الرقابة الأوروبية والأميركية بل والإسرائيلية ستتدخل في مجال الدعم والرعاية، وهنا لن يتردد الإسرائيلي في حظر هذه المؤسسة وتجميد حساباتها المالية، ما يعني توقفها عن الخدمة وبقاء الجميع رهن المجهول.

سبق لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها أن شكلت هيئة لرعاية ذوي الشهداء والأسرى، وظلت مكاتبها بشكل أساسي في الأردن حتى إقامة السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات، والتي بدأت بتخصيص رواتب متوسطة الدخل لهذه العوائل، وتبع ذلك صرف رواتب لكل أسير محرر قضى في الأسر خمس سنوات فما فوق، ولم يعترض الكيان الإسرائيلي كما الدول الداعمة للسلطة بما فيها أميركا وأوروبا، حتى السنوات الخمس الأخيرة التي بدأت فيها "إسرائيل" باقتطاع الملايين من أموال المقاصة المخصصة للسلطة بذريعة منع تمويل عائلات الإرهابيين، والمقاصة هي عائدات الضرائب الفلسطينية التي تجنيها "إسرائيل" من التجارة الفلسطينية الخارجية عبر الموانئ والجسور، وفق اتفاق باريس بين الطرفين، وتمثل هذه المقاصة 50% من موازنة السلطة السنوية.

يأتي هذا التحول في سياسة السلطة الفلسطينية في وقت دخلت القضية الفلسطينية منعطفاً خطيراً، يتمثل بالتطورات الآتية:

1- تحديات الإعمار في غزة وخطط تهجير أهلها مع تصريحات ترامب.

2- الحرب على الضفة وتدمير مخيمات الشمال، خصوصاً في جنين وطولكرم.

3- خطط ضم الضفة الغربية وإقامة مناطق عازلة حول المستوطنات.

4- حظر نشاطات "الأونروا" وهي المؤسسة الدولية الراعية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين.

5- مشاركة أجهزة أمن السلطة باستهداف المقاومة في جنين بشكل غير مسبوق.

وهي تطورات مفصلية خاصة مع قرار السلطة المتعلق برواتب ذوي الشهداء والأسرى، ما يجعله القشة التي ربما تقصم ظهر البعير، لتدخل السلطة عقبها ومعها المنظمة في سياق النظام العربي الرسمي المنفصل تماماً عن مصالح الشعوب العربية وقضاياها والمرتبط حصراً بالسياسة الأميركية وتابعها الإسرائيلي، لأن التخلي عن عائلة الشهيد والأسير يعني ما هو أكثر من التنازل عن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، والحديث هنا يتجاوز النضال المسلح ليشمل النضال الشعبي السلمي، ولا يخفى على صانع القرار الفلسطيني أن الكيان الإسرائيلي يرد على الحجر بالرصاص، ويعتقل لأجل الهتاف والمسيرة والعلم، ففي تظاهرات أهل قرية بيتا قرب نابلس المعترضة على الاستيطان، وهي تظاهرات شعبية سلمية استمرت بضعة أشهر ارتقى فيها عشرة شهداء وكان آخرهم متضامنة أميركية من أصل تركي.

 يأخذ القرار الفلسطيني المتعلق بعوائل الشهداء والأسرى، كامل المشهد الفلسطيني نحو فضاءات غير مسبوقة على المستوى الرسمي، ويتسبب بترددات واسعة لعل أبرزها:

أولاً: خنق الفكر السياسي المقاوم لما يمثله الشهيد والأسير من مكانة في هذا الفكر، ورعاية البديل الفكري المتمثل بالقبول الشرعي للاحتلال.

ثانياً: تحول كامل هيئات السلطة والمنظمة للحكم الذاتي المجرد من الطموح السياسي، باعتبار ما يمثله الشهيد والأسير من فضاء سياسي ليس دونه فضاء.

ثالثاً: شطب شعار الوحدة الوطنية على المستويات الفكرية والسياسية، لأن رعاية السلطة السابقة لذوي الشهداء والأسرى ظلت دليلاً جوهرياً على حرصها الوطني الجامع، لانحدار هذه العوائل من فصائل وقوى متعددة.

رابعاً: تكريس الانقسام الداخلي وتسعير الاحتراب، خصوصاً مع توفر بيئة حاضنة لإيجاد بدائل وطنية عن المنظمة والسلطة، ولن يكون مؤتمر الدوحة الأخير آخرها.

خامساً: تفاقم التدخلات العربية والإقليمية والدولية بالشأن الفلسطيني الداخلي، وهذه المرة عبر مؤسسات غير فلسطينية تتدخل للقيام بواجب رعاية هذه العوائل.

يتجاوز قطع رواتب الشهداء والأسرى البعد الرمزي الدلالي للاستدارة الخطيرة التي تنفذها السلطة في سياساتها، فهو منهج متكامل لن يكون آخره قرار عزل المناضل قدورة فارس عن رئاسة هيئة شؤون الأسرى بسبب اعتراضه على القرار، خصوصاً مع امتناع معظم الشخصيات الرسمية الناشطة في شؤون الأسرى عن مشاركته هذا الاعتراض، ما يعكس حقيقة التهديدات التي وصلتهم وخطورتها، في وقت باتت السلطة تغرد في واد ومفاعيل القضية كلها في واد آخر.