هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج
هل يمكن أن تستخدم أقوى دولة في العالم تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان "الفيتو" ست مرات في مجلس الأمن لكي تمنع قراراً بإيصال الغذاء والدواء إلى الأطفال؟
-
رياح عنصرية عاتية تعصف بنا وبذكرياتنا وبأهلينا وأطفالنا.
يقول اللّه، سبحانه وتعالى، في كتابه الكريم في سورة "الفرقان": بسم اللّه الرحمن الرحيم "وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً" صدق اللّٰه العظيم.
في الأشهر الأخيرة ومن خلال معايشة الآلام اللا مسبوقة التي تحلّ بالمستضعفين في الأرض، وعجز العالم برمّته حتى عن توصيف ما يجري وتسميته أجد نفسي أردد هذه الآية نتيجة شعوري بغربة مطلقة، وانفصال كامل عن هذا العالم وقراراته وأحداثه وكأن بيني وبينه برزخاً وحجراً محجوراً.
فالعالم الذي نشأت فيه عذب فرات تغمره رحمة الإنسان لأخيه الإنسان، إذ يساعد الميسور من قدّر اللّٰه عليه رزقه، ويمدُ القوي يد العون للضعيف ويتشارك الجميع من أتباع الديانات المختلفة فرح الأعياد ويطلبون الدعاء لبعضهم بعضاً راجين التوفيق والعون.
أوضح صورة أتذكرها من طفولتي هي استيقاظي باكرا لأوزّع صحون اللبن على الذين ليس لديهم لبن في حارتنا، وأسمع وأنا عائدة دعاء من استلمت مني اللبن لي ولأهلي بالتوفيق، فكانت أجمل موسيقى صباحية تسعد أذني وتشعرني بالطمأنينة والصلاح.
وحين تكيلُ أمي القمح لتبيعَه تُضيف إليه بسخاء بعد الوزن وتقول من أجل البركة. وفي المساء، حين تقصد أم كرادو العجوز التي ليس لها معيل ترسلني والدتي لأشتري لها الحلوى التي تحب. في المدرسة والجامعة عشنا إخوة وأخوات لم يسأل أحدنا أحداً إلى أي دين ولدت ولا لأي طائفة تنتمي، وكنا ننتظر الأعياد لنعلم من هو المسلم ومن هو المسيحي كي نبثهم أطيب الأمنيات.
وما زالت مجموعتنا الجامعية المشكلة مصادفة من مختلف الأديان تتواصل في المناسبات وتلتقي حين تسمح الظروف رغم أنها موزعة على قارات ثلاث، لا يحمل أيُ فرد منها لبقية أفرادها سوى المودة وأطيب الأمنيات والذكريات. وحين رُزقنا بناتٍ وبنين كانوا أيضاً في مدارسَ مختلطة ذكوراً وإناثاً، وكان هناك حصص للديانة الإسلامية وأخرى للمسيحية وغالباً ما يحضر الأصدقاء معاً في الحصتين ويتمتعون بإغناء معرفتهم واتساع أفقهم.
وحتى حين سافرنا لإكمال دراستنا في الغرب وجدنا من يحتضننا من أهالي زملائنا وزميلاتنا، ويصطحبوننا معهم لقضاء أعياد الميلاد ورأس السنة، وكانوا تواقين ليعرفوا أكثر عن بلداننا ومجتمعاتنا وعاداتنا ومأكولاتنا، كما كنا ننهل نحن بشغف من ثقافتهم وثقافة مجتمعهم. وحين عدنا إلى بلداننا قدموا لزيارتنا وتعرفوا أكثر إلى أهلنا وعاداتنا وثقافة مجتمعنا، وكل هذا كان ممزوجاً بشغف وسرور ومحبة وتلبية فضول حب المعرفة لدينا جميعاً وإغناء الذات البشرية بما هو جديد ومفيد وممتع.
كان أولادي في المدارس يصومون مع المسلمين والمسيحيين ويحتفلون بأعياد رمضان والأضحى كما يحتفلون بأعياد الميلاد ورأس السنة، ونرسل المعايدات ونتلقاها من وإلى الجميع وبكل محبة وفرح ووئام. كثير من أتباع الديانة المسيحية يقيمون ولائم الإفطار لإخوانهم المسلمين وكثير من المسلمين يحيون أعياد الميلاد ورأس السنة مع إخوانهم المسيحيين. لم نسمع أحداً قط يسأل أحداً آخر عن دينه أو طائفته. أما بالنسبة إلى شغل الوظائف العامة، فقد كان هذا السؤال ممنوعاً وضد القانون. كنتَ تسير في البلاد ليلاً ونهاراً ولا تخشى أن يتعرض لك أحد بأي إساءة، بل على العكس، إذا احتجت أمراً على طريق سفر تكون واثقاً أنك ستجد من يلبيك في أي مكان في هذه البلاد سواء أكنت مسافراً في الليل أم سارباً في النهار.
إلى أمد قريب كنا نظن أن هذا هو العالم، وهذا هو الطبيعي والمفترَض، إلى أن بدأت رياح عنصرية عاتية تعصف بنا وبذكرياتنا وبأهلينا وأطفالنا وحتى بطلابنا في الجامعات الغربية، خاصة من تجرأ منهم أن يقول
كلمة حق بشأن مظلوم. ومنذ أشهر أو منذ سنتين ونحن نشهد ظلماً غير مسبوق في أكثر من بقعة على وجه هذا الكوكب من دون رادع أو فعل أو قوة قادرة على إيقافه، حتى لكأن الظلم أصبح قدراً مقدوراً. هل يُعقل أن يُترك أطفال غزة يموتون جوعاً بالآلاف في منظر مهين لكل من فيه ذرة من بقايا إنسانية أو ضمير؟
وهل يمكن أن تستخدم أقوى دولة في العالم تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان "الفيتو" ست مرات في مجلس الأمن لكي تمنع قراراً بإيصال الغذاء والدواء إلى هؤلاء الأطفال، وإيقاف المجازر الشنيعة التي يتم ارتكابها يومياً بحقهم على مسمع ومرأى العالم الذي أصبح بالفعل ملحاً أجاجاً مناقضاً تماماً لذاك العذب الفرات الذي وهبنا اللّٰه إياه، وأوصانا باحترامه وصيانته وصيانة أقدس خلقه، وهي النفس البشرية التي هي من روح اللّٰه عز وجل.
ولفرض صمت مطبق على أبشع حرب إبادة شهدها البشر في تاريخنا الحديث اقتضت الضرورة ان تمتدَ المكارثية لتطال حرية الرأي والإعلام والفكر والبحث في كل أصقاع الأرض كي لا يعلم أحد عن بشاعة ما يتم ارتكابه إلا النزر اليسير، وكي يتم اغتيال المروءة والشهامة ونصرة المظلوم والقضاء على هذه الثقافة التي هي ركيزة أساسية من إنسانية حياتنا البشرية وجمال أخلاقها التي كنا إلى وقت قريب نفخر بالانتماء إليها.
بين هذا العذب الفرات وذاك الملح الأجاج برزخ، ومع ذلك، فإن الملح الأجاج يحاول أن يتسرب إلى العذب الفرات ليُفسدَه ويحوّله إلى ملح أجاج مثله متكئاً في ذلك على صمت المتواطئين والجبناء وفاقدي الضمير والمروءة.
ولهؤلاء أقول لم تعد جريمة الإبادة بحق أطفال غزة وأهل فلسطين فحسب بل أصبحت اليوم جريمة بحق كل إنسان على وجه هذه البسيطة، لأن الظلم الذي استشرى في منطقتنا سيصل إليكم غداً أنتم الذين دعمتموه ظناً منكم أنكم تعيشون على كوكب مختلف لا علاقة له بما يجري على كوكبنا نحن المظلومين المستضعفين بالأرض ولكنكم مخطئون فالفرق بيننا وبينكم هو مجرد وقت فقط، وسوف تأتي الساعة التي ينقضُ فيها فرانكشتاين الذي صنعتموه بأنفسكم عليكم، وحينئذ فقط سوف تعلمون كم أخطأتم اليوم ليس بحق أطفال وأهل غزة فقط وإنما بحق شعوبكم وأجيالكم المستقبلية. ويومئذ ستلاحقكم عيون أطفال غزة التي تسمحون وتعملون على توفير الغطاء والإمكانية لزهقها، سوف تلاحقكم ذنوباً وعاراً وقهراً وظلاماً دامساً يغشي كل أعمالكم وأوجه حياتكم وحياة أجيالكم القادمة. أما القلة القليلة التي دفعت الأثمان ورفعت الصوت عالياً ضد الظلم والإبادة والعدوان فهي الوحيدة التي سوف يُكتَبُ لها البقاء في سجل الخالدين.
فلا شك أبداً أنه بين الظلم والعدل برزخ وحجر محجور، وأنه وإن ارتأت أعتى قوة عسكرية أن تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً فإنها لن تستطيع.
وأن كل ما تحتفي به هو إنجازات وهمية تشي بضعفها وفقدانها التوازن وجهلها بمسار التاريخ وقوته وقدرته على إصدار الأحكام النهائية التي تبقى شاهدة على تموضع الحق بينما تزهق الباطل فتجعله كالرماد في يوم عاصف اشتدت به الريح فلا أثر له.
المؤشرات بدأت بالظهور والطغيان يعمي قلوبهم وأبصارهم فلا يرون سوء ما يعملون، بل ويظنون أنهم منتصرون فيمد اللّٰه لهم في طغيانهم ليزدادوا إثماً. إن ما نشهده اليوم في غزة وفلسطين جريمة ستكون لها ارتداداتها على مستقبل البشرية لأنَ هذه الدماء الطاهرة لن تذهب سدى وعيون هؤلاء الأطفال والأمهات والآباء لن تبرح كوكبنا حتى نرى جميعاً العذاب الأليم يحيق بمرتكبي هذه الجرائم وتعود الإنسانية إلى سابق عهدها في بحر عذب فرات لا يشوبه الظلم ولا الجبن ولا التخاذل ولا الطغيان وإن غداً لناظره قريب..