هندسة التجويع كمنهج إبادة
غزة اليوم تقرع جدران الخزان، لأجل نفسها والعالم؛ لأن الأخير سيدفع ثمن هذا التجويع واستمراء القتل، لأن العدوى ستنتشر في كل ردهة من ربوعه.
-
غزة اليوم تقرع جدران الخزان.
لم يتوقف الاحتلال منذ عقود عن ممارسة التجويع ضد سكان قطاع غزة ومنع إدخال العديد من البضائع والأصناف التي كانت تعتبر مواد خطرة، ذلك لأن فصائل المقاومة -بحسب ادعائه- تقوم باستثمارها في صناعة الصواريخ والوسائل القتالية الأخرى، كما كان يقوم بتحديد عدد الشاحنات التي تدخل القطاع، وتأخير إدخال أخرى، الأمر الذي يكلف التجار الفلسطينيين الكثير من المال؛ نظرًا لاستئجار أرضيات وبركسات داخل الموانئ المحتلة، إضافة إلى تلف معظم تلك البضائع المحتجزة نتيجة تعرضها للشمس لفترة طويلة، ما ينعكس على حركة البيع والشراء، لأن الضرر يصيب التاجر فيقوم الأخير برفع الأسعار لاحقًا، ورغم ذلك استطاع سكان القطاع تجاوز بعض المعضلات بتهريب تلك البضائع من الأراضي المصرية عبر الأنفاق.
ورغم ما جرى سابقًا، لم يشعر الفلسطينيون بحجم الكارثة إلا مع الإبادة التي تحدث اليوم أمام مرأى العالم، حيث جرى إغلاق معبر رفح المصري والمعابر الأخرى على سكان القطاع، تحديدًا معبري كارني وكرم أبو سالم، ثم أخذ جيش الاحتلال يتحكم في طريقة عبور المساعدات الإنسانية، متجاهلًا البروتوكول الإنساني المستحدث بين المفاوضين والقوانين الدولية وحقوق الإنسان وكذلك جميع الشرائع الدينية.
ولعل المعضلة الكبيرة التي حدثت مؤخرًا ليست في تجويع الأطفال والمجتمع بأكمله، بل في هندسة التجويع لتحويل غزة إلى غابة، القوي فيها يأكل الضعيف، وتمزيق المجتمع المتعاضِد الذي فشلت كل أدوات الاحتلال في اختراقه رغم حجم الكارثة والدماء التي تنزف بشكل يومي؛ مستندة بذلك إلى ظهير عربي يمنع إدخال البضائع بوضع عراقيل وحجج واهية، وكذلك تجار متخابرين مع الاحتلال يرفعون الأسعار بشكل فاحش، وعملاء على الأرض يفتعلون الأزمات كعدم التعامل ببعض الأوراق النقدية وغيرها، لدرجة أن وصل الحال بالقطاع أن يصبح قبراً ضخماً يتسع لكل الأطفال، في الوقت الذي يفتح فيه بعض دول الطوق أبوابه لجنود ومستوطني دولة الاحتلال كي يتنقلوا بحرية وسلام إلى دول العالم المختلفة، ويعملوا على إدخال البضائع إلى المستوطنات والمدن المحتلة مع إغلاق الحوثي لحركة الملاحة المتوجهة نحو دولة الاحتلال، في مفارقة لن يغفرها التاريخ لتلك الأنظمة.
وإزاء ذلك كان لا بد من محاربة هندسة التجويع التي نشأت مع وجود مؤسسة المساعدات الأميركية (GHF) والتي تقوم بشكل يومي باستهداف الشبان حيث صارت منطقة زيكيم ونيتساريم وكذلك بعض مناطق رفح المنكوبة إلى شِباك لاصطياد الشبان وقتلهم بالقنص أو القصف، إذ وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ألف شهيد في مشهد دموي متكرر، وفي ظل منع تأمين الشاحنات من خلال استهداف رجال الأمن عشرات المرات، كي تُسرق البضائع ويجري استغلالها من طرف اللصوص والعملاء؛ بينما يتفرج المشاهد العربي، وتشرع أقلام النخبة في الدفاع عن الأنظمة التي عجزت عن إدانة التجويع.
ولأن الكتابة ليست مجرد نقل للتاريخ أو توثيق للحدث فقط، بل لصناعته في المواقف الأخلاقية كما يقول مارتن لوثر كينج، خصوصًا مع تسجيل مستشفيات قطاع غزة أكثر من 122 حالة وفاة نتيجة سوء التغذية خلال الأيام القليلة الماضية، كان لا بد من الإشارة إلى أن هناك العديد من السبل التي يمكنها أن تؤجج الرأي العام العالمي، للوقوف عند مسؤولياته الرسمية الأممية والأخلاقية، من خلال تنفيذ الفعاليات التضامنية، الفردية والجماعية، المحلية والدولية، المهم أن تكون منظمة معتمدةً في وسائل التواصل الاجتماعي كصرح إعلامي ملهم، خصوصًا منصة تويتر أو ما يعرف اليوم بمنصة (X).
ويجب أن تبدأ تلك الفعاليات بالقرع على الأواني، كأن يخرج الناس إلى شرفات منازلهم أو في التظاهرات ويقرعون الصحون والطناجر تعبيرًا عن الجوع والغضب، ولتكن دعوة عالمية في توقيت واحد، إضافة إلى فعاليات صرخة من أجل غزة، إذ من المهم أن تصرخ البلاد كلها في الميادين، الأطفال والنساء، ثم توثيق الحدث في وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تنظيم وقفات احتجاجية للأطفال في المدارس والمعاهد والجامعات؛ ويمكن عرض موائد فارغة في الساحات العامة، كرمز لغياب الطعام في غزة.
عدا عن الخيام التي يجب أن تحاصر السفارات الأميركية والغربية، وإعلان يوم صيام تضامني مع غزة، مع عمل "هاشتاقات" عالمية للتركيز على الإبادة أيضًا والتجويع الممنهج، وليس هذا وحده؛ إذ يمكن عمل وقفات ليلية بالشموع ورسم جداريات فنية أو تعليق أكياس طعام فارغة على أبواب البيوت، يكتب عليها "كلنا غزة" أو "أنقذوا غزة". إضافة إلى العروض الفنية الصامتة واستثمار السينما والمسرح؛ ثم بث وإرسال رسائل جماعية للمؤسسات الدولية والسياسيين.
إن غزة اليوم تقرع جدران الخزان، لأجل نفسها والعالم؛ لأن الأخير سيدفع ثمن هذا التجويع واستمراء القتل، لأن العدوى ستنتشر في كل ردهة من ربوعه، ولا حل إلا بتحرك عملي حقيقي ضد الاحتلال، يبدأ بالاعتراف بدولة فلسطين ونبذ دولة الاحتلال ومحاكمتها ومنع تصدير البضائع والأسلحة إليها، ثم أخيرًا الانفجار في وجه من يحمي ذلك الكيان الغاصب، كي تستعيد الأمة عافيتها وحضورها البهي.