عبد المجيد زراقط في "طريق الشمس": عن جنوب لبنان وأهله
رواية "طريق الشمس" رواية قائمة على موضوع المقاومة التي شهدتها قرية "مركبا" وهي تواجه الاجتياح الإسرائيلي، فهي تقوم بتمثيل المكان الواقعي لجميع قرى الجنوب اللبناني.
-
"طريق الشمس" لعبد المجيد زراقط
سررتُ كثيراً بقراءة رواية الدكتور عبد المجيد زراقط "طريق الشمس" لجمالها الفني، وواقعيتها المذهلة، وقدرتها على تصوير حال الناس في الجنوب اللبناني، وهو في اشتباك وطني مقاوم للعدو الإسرائيلي منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948، بعد خروج المحتل الإنكليزي وانتهاء انتدابه على البلاد الفلسطينية العزيزة.
سررتُ لقدرة الأدب على تحويل المشاعر الإنسانية إلى أفعال، ولوحات، وسلوكيات تمجّد الحياة في ظلال العافية الوطنية التي يجسدها الكبرياء والكرامة، مثلما سررتُ بعافية المقاومة التي تجعل كل صعب هيناً ومتاحاً عبر صور للأبعاد التاريخية التي يبديها السرد، والاعتزاز بالتراب كجغرافيا رواها الحب بالعافية، والإنصات إلى ما يقوله التراث، وما يرويه عن العادات والتقاليد والأعراف والتصورات التي تجلو الثقافة الشعبية ليصير السلوك البشري نسيجاً متلاحماً في الصورة والمعنى.
الدكتور عبد المجيد زراقط، من أبناء الجنوب اللبناني، ولد في قرية "مركبا" قضاء مرجعيون، ودرس سنوات تعليمه الأولى في مدرستها، ثم درس شهادة الثانوية العامة في البلدات المجاورة، انتسب إلى دار المعلمين في مدينة صيدا، وحاز شهادتها، ودرّس تلاميذه في المراحل التعليمية الثلاث: الابتدائية، والإعدادية، والثانوية، ثم نال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة القديس يوسف، فانتقل إلى تدريس طلابه في الجامعة اللبنانية. هو من مواليد عام 1946، لهذا عاش ويلات الاحتلال الإسرائيلي طفلاً، وسمع الحكايات التي تُروى عن تاريخ جبل عامل في دواوين السهر في بلدته، وفي البلدات المجاورة لها، وعرف أعلام هذا الجبل الأشم قراءة في الكتب والسير الشعبية، وقد كانوا من أهل الحضور والمكانة في جميع فروع العلوم والثقافة والعقيدة، مثلما كانوا أهل سلوك حضاري في حياتهم التي بدت جلية في العمران، والزراعة، والصنائع، والآداب، والفنون، وسائر العلوم الأخرى. لقد وعى معاني الاعتزاز والانتماء، والدفاع عن البيت والأرض، والكتاب... طفلاً، ومشى وراء جنازات الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم كي يبقى البيت والكتاب، وتبقى الأرض والمعاني عزيزة معافاة من كل دنس.
كتب د. عبد المجيد زراقط في معظم أجناس الأدب، كتابات اتصفت بالغنى المعرفي والجمالي، فهو كاتب مرموق ذو مكانة عالية في الكتابة للأطفال، ويكاد يكون من أهم الأسماء الأدبية العربية التي أوْلت عالم الطفولة عنايتها في التثقيف والتربية واكتساب القيم السامية، وفي طليعتها القيم الوطنية ذات الأبعاد الذهبية: الوعي، والثقافة، والعقيدة. وقد كتب للفتيان قصصاً وروايات عدة حظيت بجوائز عربية مهمة، وكتب القصص القصيرة للكبار، مثلما كتب الروايات التي نالت جوائز أدبية رفيعة، ومنها روايته التي هي موضع الدراسة هنا (طريق الشمس)، هذا ناهيك عن الدراسات الأكاديمية التي أعدها وسهر عليها من أجل أن تكون زاداً معرفياً مهماً لطلبته في الجامعة، ولا سيما مؤلفاته التي أحاطت بأزمنة مهمة من تاريخ الأدب العربي الذي ربخت فيه أهم وجوه الحضارة العربية التي اغتنت بالعقيدة الإسلامية، والبعد العروبي في آن، والحق أنّ الدكتور زراقط لم يقصر وجوده الأدبي على عصر أدبي محدد، لأنه شغل بمفهوم الإبداع وأساليبه في الفنون الأدبية، ووقف على الأسباب التي تجعله فناً إنسانياً مهموماً بقضايا الإنسان المعاصر، ولا سيما قضايا الحرية، والمظلومية، وخرافة القوة، والنزوع إلى التطرف والإرهاب، وثقافة الإخافة والهيمنة، والدعوة إلى العنصرية، وتحييد معاني الإخاء، والنبل، وإفساح المجال للشرور والظلم للتهديد بهما.
بدأ المشوار الأدبي للدكتور عبد المجيد زراقط بكتابة أدب الأطفال والفتيان، ثم بكتابة القصص القصيرة والروايات، وهو اليوم أحد أهم أعلام الكتابة الإبداعية في لبنان والبلاد العربية، ومؤلفاته مقروءة، ومنتشرة، ومبذولة أمام النقاد والقراء في آن، وأهم ما فيها أمران: أولهما المكنة الأدبية، ووفرة الجمال الإبداعي، والقدرة على الجذب والاستحواذ على اهتمام القراء والنقاد معاً، وثانيهما الواقعية السحرية التي نرى أمثلتها ونماذجها بادية في قصص أدب الأطفال والروايات الموجهة للفتيان، لأن الخيال غنى يبحث عنه الأطفال في أعمار طفولتهم الثلاثة: الأول والثاني والثالث، وكل مرحلة عمرها ست سنوات، أما قصصه ورواياته للكبار، ففيها يتجلّى الواقع عبر مجسات عدة، لعل في طليعتها ما دوّنه الأجداد من تواريخ بدت في الأدب الشعبي، والحكايات، والمرويات الشفهية التي دارت حول رزنامات الزراعة، والصنائع، والرحلات، واكتساب العقائد، والمعارف التي انهمّ بها الريف اللبناني في الجنوب، والمتعلقة بـ"سوسيولوجيا" المجتمع لمعرفة الجميل والأثير والنافع في العادات والتقاليد، ومنها المناسبات، والأعياد، والطقوس الاجتماعية والدينية، وما تؤكده من حضور وإدامة.
د. عبد المجيد زراقط ابن ثقافة مجتمعها هو المجتمع الريفي، فقد عاش في قريته( مركبا) طول حياته من زمن ولادته 1946 إلى سنة 1978، ولم يغادر هذه القرية إلا في أيام دراسته وتدريسه للطلبة، لكنه عاش في بيروت بدءاً من عام 1978، إثر الاجتياح الإسرائيلي لقرى الجنوب اللبناني، ولم يعد إلى قريته إلا عندما حُرّرت في عام 2000، ولهذا كان مخلصاً لكل معطيات الثقافة الريفية وأحلام أهلها التي تتسم بالتعلق بالأرض، والتاريخ، والأحلام، وما تكوّنه هذه الأقاليم الثلاثة من هوية وطنية مماثلة في صلادتها وحضورها للعقيدة السامية.
روايته "طريق الشمس" رواية قائمة على موضوع المقاومة التي شهدتها قرية "مركبا" وهي تواجه الاجتياح الإسرائيلي، فهي تقوم بتمثيل المكان الواقعي لجميع قرى الجنوب اللبناني التي واجهت الظلموت الإسرائيلي الطامع بالأراضي اللبنانية من جهة، والباحث عن غاية شريرة هي تحييد ثقافة المقاومة الشعبية المرتبطة بالعقيدة، وإقصاء أفكار الوطنية، والسيادة، والحرية من جهة، وترويج الإغراءات الخلّبية ذات الطابع الاستهلاكي، والقول دعائياً بأن المسرّة والسعادة تكمُنان في الحياة المهادنة للمحتل والغازي حتى لو كانت هذه الحياة بلا عزة، بلا كبرياء، بلا كرامة، بل أكثر من هذا، حتى لو كانت الحياة خالية من الصفات والمعاني الوطنية!
والرواية، من الناحية الفنية، تقوم على تعددية الأصوات الراوية للأحداث والسير والمرويات، أي أنها رواية (بوليفينية) لا رواية سارد عليم مهيمن واحد يقود السرد وفق ما يريده، وهذه الأصوات تمثل مجتمعين اثنين، أولهما: مجتمع القرية عامة، وفيه المثقفون والمتعلمون، وغير المثقفين والمتعلمين، وثانيهما: مجتمع المعلمين فقط الذين يمثلون وجوه الثقافة وأدوارها، ووجوه الوطنية وسلوكياتها.
والرواية مكتوبة، وهذا ما يقرّ به الكاتب تصديراً لروايته، في زمن الاجتياح الإسرائيلي، أي في زمن الخوف، والتهديدات، والإغراءات، أعني زمن اختبار النفوس والقيم والهمم في آن، وقد بقيت أوراق الرواية مخطوطة في القرية طوال زمن الاحتلال وطيه، ولم تعد إلى يد كاتبها إلا بعد تحرير القرية "مركبا" سنة 2000، أي أنّ كل ما في الرواية من موضوعات وأحداث وحادثات، وأساليب فنية، ظل محتلاً أيضاً منذ عام 1978، إلى عام 2000، فتحرير الأرض واستعادتها كانا سبباً لتحرير الرواية واستعادتها، وهذه فكرة ذهبية بُنيت عليها الرواية، فاستعادة القرية والبيوت والحقول هي استعادة للتاريخ الذي دونته الرواية، ولا سيما تاريخ البلدة وأعلامها، والمواسم وفصول السنة، وحياة الناس المُعاشة، والظروف الصعبة التي عاشتها أجيال القرية قبل تأسيس المدارس، وبعد تأسيسها، وقبل وجود المحتل الإسرائيلي، وبعد وجوده المحقق بالقوة.
ترصد رواية "طريق الشمس" البقع العامة والرمادية التي عاشها أهالي البلدة بعيداً عن الثقافة والكتب والمدارس من جهة، وقسوة الطبيعة الراعبة، ولا سيما في فصل الشتاء، وانقطاع الدروب ما بين القرى والبلدات، وصعوبة الانتقال من مكان إلى آخر ، وعدم التواصل ما بين الناس من جهة أخرى؛ ومن هذه البقع العاتمة والرمادية، زراعة التبغ، وهي تكاد تكون أهم موارد التنمية الزراعية في الجنوب اللبناني، وما يلفها من ظلم وعسف من قبل الاقطاعيين والمتنفذين الإداريين، بدءاً من الاقطاعي الكبير إلى الوكلاء والعملاء الذين يقدرون أثمان التبغ وجودته، والتعب الثقيل المرهق الذي يلف البيوت وأهلها، وهم يساهرون نباتات التبغ بالرعاية التامة منذ لحظات زراعتها إلى لحظات تسليمها وكلاء الاقطاعيين. كما ترصد الرواية الحال الجديدة، والثقافة الجديدة اللتين أشرقتا على بلدات الجنوب، مثل الشمس، حين افتتحت المدارس، وصارت الكتب، وأسئلة التعليم والثقافة في كل بيت، مثلما صار الاختلاط بالمعلمين أهل الثقافة، وحاملي الأفكار الجديدة، والمنتسبين إلى الأحزاب السياسية، والأندية الاجتماعية... روح جديدة، ومسارات جديدة لحياة حلمت طويلاً بأن تكون لائقة بالمستقبل المنشود والمرتضى؛ وقد تلبثت الرواية عند ثلاثية ذات أبعاد.