تحت سماء بغداد

بغداد التي كانت منارة للعلم حين كانت أوروبا تغط في ظلمات الجهل، تشعل اليوم شمعة في ظلام الإعلام العربي، لتذكرنا أن النهضة تبدأ بكلمة، وأن التحرر يبدأ بفكرة، وأن تعدد الآراء والأفكار مصدر غنى، ونعمة لا نقمة.

  • تحت سماء بغداد

بغداد بين النهرين كتبها الله قصيدة *

**

حيث يعانق النخيل ضفاف دجلة، وتتوجّع الذاكرة بألق الماضي وحنين الحاضر، وتنفض عنها غبار الحرب والحصار، وتضمّد جراح الأمس القريب، تتنفس بغداد عبير التلاقي من جديد. فبعد أن ظن البعض أن نجمها خفت وتلاشى خلف سُحب الألم ودخان الحروب والإرهاب، إذا بها تشرق من جديد، تنتصر للحياة، تضجّ بالناس والحركة، لا يخلو مقهى فيها من شاعر أو أديب، تصدح مواويلها في ليل دجلة، تزدحم شوارعها وأسواقها بالباعة والمشترين، وتنظّم الفعالية تلو الأخرى.

هكذا، بعد أيام على اختتام "مهرجان بغداد الدولي للمسرح"، انعقد "ملتقى بغداد للإعلام العربي"، في دورته الأولى، بمبادرة من مجلة "السيدة الأولى" برئاسة السيدة، جيهان الطائي، كأنه بشارة ربيع بعد صيف قائظ.

زائر بغداد يدرك أنها ليست فقط أرضاً منذورة للقتال والقتل، كما يحلو للبعض أن يصورها، فلا يسلّط الضوء عليها إلا حين تسوء الأحوال وتسودّ الأيام، بل هي لوحة أبدعها الخالق منذ كانت "دار السلام" تزخر بحضارة استثنائية رفدها العلماء والشعراء، فجعلوها قبلة الدنيا، وموئل الوحي الثقافي والعلمي.

بغداد التي استقبلت في مدارسها علماء الفقه واللغة، واحتضنت في "بيت الحكمة" حكماء من كل الثقافات والأعراق، تضجّ اليوم بالحياة وتكافح لاستعادة مجدها التعددي الذي جعل منها عاصمة العالم القديم.

دجلة الخالد، الذي روى قصص "السندباد" و"ألف ليلة وليلة"، يهمس اليوم للقادمين من كل فجٍّ: "إن البلاد التي أنجبت المتنبي وأسست لعلم الجبر، لا تزال قادرة على أن تلد المعجزات". ففي العراق الذي يتنفس شعراً ويتوارث أبناؤه حب القصيدة كابراً عن كابر، تظل كلمات محمد مهدي الجواهري خالدة يتردد صداها فوق ضفاف دجلة: "يا دجلة الخير يا أمّ البساتين".

حلة جديدة اكتستها العاصمة العراقية باحتضانها باقة من الإعلاميين العرب في الملتقى الذي لم يكن مجرد تجمع صحافي، بل كان إعلاناً بأن بغداد، برغم جراحها، ما زالت قادرة على أن تكون منبراً للكلمة والحوار. وكالنخلة المائلة التي لا تسقط، تثني بغداد جذعها مع العواصف لكن جذورها تتعمق في تربتها أكثر، وسعفها تظل تنتظر موسم الرطب لتهب عطاءها الطيب تماماً، كما يهب العراقيون ضيوفهم كرَم المحبة وسخاء المودة.

تزامناً مع هذه المبادرة الإعلامية لحظة مصيرية أخرى تعيشها المدينة، فهي تتهيأ لاستحقاق وطني كبير: الانتخابات البرلمانية المقبلة. وستلاحظ عين زائرها كيف تحولت شوارعها إلى غابة من الصور واللافتات العشوائية، تبرز فيها بكثافة لافتة صور النساء المرشحات، وكأن المدينة تجاهر بأن إرادة الحياة تتجدد، وبأن المرأة العراقية، التي عانت الكثير، جديرة بأن تحتل موقع الصدارة.

في خلفية هذا المشهد السياسي الصاخب في ظلّ واقع إقليمي مضطرب، تعجّ المدينة بورش بناء عملاقة. لكن بغداد التي تعانق التحديث، تدرك أن تحديث البنى التحتية ينبغي ألا يفقدها جزءاً من روحها. وهذا شارع أبو نواس يذكرنا بأن التوسعة والتحديث، إن جاءا على حساب الخضرة الوارفة، فكأنما نستبدل بصمة الهوية الطبيعية الخلابة ببصمة الإسمنت والأسفلت، وشتّان ما بين هذا وذاك.

وسط هذا الصخب كله، سرعان ما تدرك أن جوهر بغداد يبقى هو هو. ففي أعماق هذه المدينة، في أحيائها الشعبية وحاراتها ومكتباتها ومقاهيها، ثمّة روح لا تشبه سواها. شارع المتنبي يشهد على ذلك، بمكتباته العتيقة التي تحوي كنوز المعرفة، ومقاهيه التي ما يزال عبق القصيدة فيها يختلط برائحة القهوة، وكأن الزمن يقف إجلالاً لكلمة تبحث عن حرية. وراء كل حجر في هذا الشارع العريق، ثمّة حكاية لم تروَ بعد، حكاية فتى اختبر الحرب فحلم بالسلام، وأب استشهد أبناؤه فبقي صلباً كالطود، وامرأة فقدت كل شيء إلا إصرارها على الحياة، وشاب اختار الأمل سلاحاً لصناعة مستقبل مختلف.

بغداد التي كانت منارة للعلم حين كانت أوروبا تغط في ظلمات الجهل، تشعل اليوم شمعة في ظلام الإعلام العربي، لتذكرنا أن النهضة تبدأ بكلمة، وأن التحرر يبدأ بفكرة، وأن تعدد الآراء والأفكار مصدر غنى، ونعمة لا نقمة.

وبغداد، تفتح أبوابها للضيوف، كعادتها عبر العصور، يجولون في شوارعها، فيشتمّون عبق التاريخ مختلطاً بنسيم الأمل. شارع الرشيد يروي لهم حكايات البطولة، والمدرسة المستنصرية تهمس بأحاديث العلم والمعرفة. وهكذا يكون "ملتقى بغداد للإعلام العربي" في دورته الأولى رسالة أمل تقول للعالم: إن هذه الأرض الطيبة أنجبت للبشرية أبجدية الحضارة، وما زالت قادرة على أن تقدم نموذجاً للقاء متنوع في مناخ من الألفة والمودة رغم تعدد الآراء والأفكار، ورغم كل ما مرّ عليها من نوائب ومِحن.

تستحق عاصمة بلاد الرافدين أن تروي للعالم قصة الخلود منذ جلجامش إلى يومنا هذا. فالمدينة التي علّمت البشرية كيف تبني الحضارة، وانتصرت على مغول الماضي ودواعش الحاضر، قادرة على أن تعيد بناء نفسها من بين الأنقاض، والنخيل الذي زرعه الأجداد على ضفاف دجلة، لا يزال قادراً على أن يثمر، حتى لو شاخت جذوعه وانحنت قليلاً، فهي سرعان ما تجدد شبابها خضراء لا يصيبها يباس.

(*) مطلع قصيدة "بغداد" للكاتب، لحّنها الموسيقار المصري، حازم شاهين، وغنّتها الفنانة السورية، فايا يونان.

اخترنا لك