تلد وهي تنزف: مخاض الحياة في غزة تحت القصف
ليست الولادة في غزة لحظة احتفاء بالحياة، بقدر ما هي اختبارٌ قاسٍ للبقاء، يتحوّل فيه المخاض إلى ملحمة.
-
امرأة تنظّف رضيعها داخل خيمة في مخيم للنازحين في رفح في 18 كانون الثاني/يناير 2024 (أ ف ب)
حينما تحترق الأرض تحت أقدامهم، تزرع نساؤهم الحياة بين الرماد. الحمل ضعفٌ يُنبت حياة. يتعاظم العبء في الأشهر الأخيرة، ويشتدّ التقلّب الجسديّ والمزاجيّ، وتزداد الحاجة إلى الحديد والكالسيوم وحمض الفوليك، وغيرها من العناصر التي تدعم نموّ الجنين وتحفظ جسد الأم من الانهيار. وفي غمرة هذا التحوّل العسير، تنعطف النفس إلى حساسيّتها المفرطة، فترقّ لمشهد، وتبكي لألم، وتهتزّ لأدنى خوف.
هذا في الظروف العادية. فكيف إذا كانت السماء لا تمطر سوى صواريخ، والمستشفيات مهدّدة، والممرات ملوّثة بالدم والتراب؟ كيف إذا انقطع التيار الكهربائيّ في غرفة الولادة، وتحت وطأة المخاض سُمع دويُّ الانفجار؟
المرأة الغزّية الحامل ليست رقماً في قوائم الإحصاء، بل معجزة تسير على الجمر حافية، تحمل جنينها بيد، وتدفع الدبابة بصبرها باليد الأخرى. تضع مولودها على صوت القصف، وتضمّه إلى صدرها الذي جفّ منه الحليب، لا عجزاً، بل قهراً. يتأخّر نمو الجنين أحياناً، لا لخلل خَلقي، بل لأنّ الغذاء شحيح، والدواء مفقود، والفقر جاثم.
أن تولد حياةٌ بين الموت، أن تحمل امرأةٌ في قلب الحرب، فذلك إعلانٌ صامتٌ بأنّ الوجود لم ينهزم بعد. أن تولد روحٌ في وطن تفيض أرضه بالشهداء لا بالماء، فذلك أبلغ ما يمكن أن يُكتب عن معنى الصمود.
الحمل ليس تجربة فيزيولوجية فحسب، بل معركة وجودية تخوضها كلّ امرأة غزّية. هي معركة جسدٍ أنهكه الضعف، ونفسٍ أُنهِكت بالخوف، وبيتٍ لا يكاد يصمد أمام القصف، فكيف يصمد لاحتضان حياة جديدة؟
منذ اللحظة التي تكتشف فيها أنها تحمل جنيناً، تبدأ رحلة الترقّب والقلق. تتحوّل إلى مراقبة دقيقة لكلّ حركة داخلها، تحسب نبض الجنين كما تحسب القذائف في الخارج، تفتّش عن غذاءٍ متوازن في بيوت لا تجد فيها إلا الخبز اليابس، وتُطارد الدواء في صيدليات أنهكها الحصار.
تلبس ما لا يقيّد نموّ جنينها، وتقلّب ليلها أرقاً، وتكابد آلام الحمل تحت القصف والانقطاع للكهرباء والماء. لماذا على الأم الغزّية أن تستقبل الحمل بالغصّة؟ لماذا على وجعها أن يُقابل بصمت العالم؟
هي لم تطلب امتيازات، لم تحتج تقنيات الولادة الحديثة، بل أرادت فقط أن تلد طفلاً في ظلّ سقف لا يسقط، في غرفة تُضاء بالكهرباء لا بنيران القنابل، بين أيدٍ تمسح العرق لا الدم.
ليست الولادة في غزة لحظة احتفاء بالحياة، بقدر ما هي اختبارٌ قاسٍ للبقاء، يتحوّل فيه المخاض إلى ملحمة.
تدخل المرأة الغزّية مرحلة المخاض من دون كهرباء، ومن دون طبيبة مختصة، ومن دون غرفة معقّمة. تدخلها أحياناً تحت الأنقاض، أو على ضوء شمعة، أو في مأوى لا يحوي وسادة نظيفة.
الولادة لا تبدأ في غزة بموعد، ولا تنتهي بطمأنينة. الحرب لا تنتظر اكتمال الحمل، ولا تأبه بوجع الأمهات.
وحين تلد، لا يُسمع بكاء الطفل إلا ممزوجاً بصوت الإنذار، ولا تُرى دموع الفرح، بل يُخبّأ الطفل بسرعة، ويُلفّ ببطانية قديمة لئلا يبرد في العراء. يولد الأطفال في غزة وهم يحملون في شهيقهم الأول رائحة البارود، لا حليباً دافئاً أو حضناً آمناً.
ما إن تنتهي آلام الولادة، حتى تبدأ معركة جديدة. لا تجد الأم الغزّية وقتاً للراحة، ولا مساحة لتعقيم جرح أو تغيير ضمادة. فمرحلة النفاس تُقضى في الخيام، أو بين الأنقاض، أو في مسيرة نزوح لا تعرف النهاية. ترعى رضيعها بعين، وتراقب الخارج بعين أخرى، تخاف أن تسقط قذيفة، أو يقتحم المكان خطر.
الغذاء قليل، والماء ملوّث، والحليب الصناعي مفقود أو باهظ الثمن. القلق لا يزول، والتعب لا يُعالج. كلّ ما تفعله الأم هو محاولة الاستمرار... لا أكثر. ورغم كلّ هذا، تُرضِع، وتُهدّئ، وتُطمئن.
تبتكر من فقرها حياة، وتمنح صغيرها وهم الأمان في وطن منهك. من يسمع صوتها إذا اختنق الحزن في حنجرتها؟ تغيب عنها لحظات السكون، وتغيب عنها ذاتها.
وهكذا، تُقمع حاجتها النفسية باسم النجاة، وتُهمّش معاناتها في زحمة الأولويات، بينما تستمرّ الصرخات الصامتة تتعالى في داخلها. المرأة الغزّية التي تحمل وتلد في قلب الحرب، ليست مجرّد أمّ تنتظر مولوداً في سلام، بل هي جبهة كاملة تقاتل كي لا تنطفئ الحياة.
إنها تواجه الموت كلّ لحظة، لكنها لا تتوقّف عن إنجاب الأمل، عن غسل طفلها بماء القلب، عن لفّه بستر الدعاء، عن احتضان المستقبل رغم الظلام.
تولد الحياة في غزة وسط الموت، وتظلّ تلك الأم، التي تسير حافية فوق رماد بيتها، رمزاً للمقاومة التي لا ترفع السلاح، لكنها تزرع الحياة.
في رحم المعركة، يُولد الأطفال، لا ليعيشوا فحسب، بل ليشهدوا أنّ الصبر هو أمّهم الأولى، وأنّ فلسطين لا تنزف وحدها... بل تلد وهي تنزف.